الشَّبَحان

الشَّبَحان

نعمان إسماعيل عبد القادر

[email protected]

الأحياء نائمة.. والأحياء فيها نائمون..  الشوارع خالية من كل الأحياء البشرية.. وانتشرت فيها بعض الكلاب الضالة وقليل من القطط المشردة. لم يعد هناك من يتحرك في مثل هذه الساعة، وبعد أن تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل بقليل، إلا مَنْ أخرجته الضرورة الملحّة من بيته. لأنّ برودة الشتاء الليلةَ باتت أكثر شدّةً من الليلة الماضية. صحيح أن الدنيا لم تمطر منذ أسبوع، لكن أربعينية الشتاء في أوجها.  هدير المدفآت الكهربائية الذي يقطع سكون الليل يذكّره بهدير آلات النسيج حين كان يشغّلها ويشرف عليها في المعمل الذي اشتغل فيه أيام أنهى الثانوية العامة في مدينة تل أبيب. تثاقل في مشيته كأنه يحمل على ظهره كيسًا ثقيلا من الطحين.  وبات ظلّه تحرّكُهُ أنوار المصابيح المعلّقة على رؤوس أعمدة الشوارع.. سكون الليل يؤرقه. ولم يعد هناك ثمّة شعور بالارتياح مما حدث معه نهار أمس. أفكاره المشوّشة  تتصاعد أمواجها ثم تنحسر شيئًا فشيئًا حتى لتكاد تصفو بعض الشيء كلّما أشغل نفسه بما تراه عيناه؛ لأن صورة الشرطيين اللذين انهالا ضربًا على أحد العمال العرب لا زالت تثير فيه مشاعر السخط والغضب. وصراخ زوجته في وجهه ونعته بأبشع الألفاظ لا يزال يتعب قلبه.. ولكن  ليس هو الوحيد الذي لا يعمل، فهناك الكثير من العاطلين عن العمل غيره! والبطالة مترعرعة في الوسط العربيّ وكبرت منذ زمن. وبين الفينة والأخرى يتذكّر  نظرة  صاحب مصنع الحلويات إليه حين زاره صباحًا بتوجيه من مكتب العمل  وقال له في استخفاف: " أنت غير ملائم لنا ونحن لا نقبل إلا العمال الذين أنهوا الخدمة العسكرية".

  تناول "طاهر" من جيب معطفه علبة السجائر وأشعل سيجارةً ثم تابع  سيره باتجاه "مقهى الحريّة". أبوابه كانت موصدة، فتجاوزه غير بعيدٍ وانعطف يسارًا نحو  شارع "العجمي".. حينما لوى عنقه لمح في ناصيته شبحًا أسود مقنّعًا.. فأوجس في نفسه خيفةً. ولمّا  دقّق النظر رآه يمضي باتجاهه بشكل يبعث الريبة في النفس، لابسًا قفازين ويحمل بيده شيئًا لم تتضح معالمه.  في زاوية البيت القريب وجد سندًا لظهره وسترًا لهيئته. عيناه شرعتا في مراقبة حركاته الخفيفة التي يحرص على ألا يُحدث بها صوتًا فيوقظ النائمين. هذا ما كان يتوقّعه. المستهْدَف هو بيت "فايد المصري".  لم تمض سوى لحظات قليلة حتى تسوّر الجدار ثم تسلّق الحائط كأنه عنكبوت كبير..   دقائق قليلة خلت حتّى كان في جوف البيت.. نفذ فيه من النافذة التي فتحها بخفة ومهارة دون أي ضجيج.  الأنوار أضيئت في المنزل. وظنُّهُ بأن أصحاب المنزل سيستيقظون على اللص، قد خاب؛ لأن المنزل فرغ من أصحابه منذ يومين. واللص هذا أصبح مالكه في هذا الوقت.. يعبث فيه دون رادع يردعه.  وثلاثة أرباع الساعة التي قضاها ينتظر نزوله كانت أشدُّ صعوبةً على نفسه. أيصيح ويوقظ الجيران؟ أيلاحق اللص ويقتله؟ أم يتّصل بالشرطة ويُلقى القبض عليه وهو متلبّس بالجريمة؟ لكنّ صاحب البيت أهل بأن يُسرق ماله ؛ لأنه ممن لا يهمهم أمر الفقراء. يسيح في الأرض أينما شاء ويقضي أوقاته حيثما شاء ومعروف عنه أنه زير نساء. فتذكّر ديباجته التي طالما كان يرددها وأصبحت على لسان الكثير من روّاد المقاهي: "اسكب واشرب يا صالح! كل الناس مصالح. الصالح فيهم طالح".

هذه هي التي يبحث عنها الغريب.. اغترف منها مما توفّر له من عملةٍ صعبةٍ وذهب خالصٍ وجواهر كريمةٍ. الحذر كان يلازمه في كل تحرّكاته. إذ قبل أن ينزل، مدّ عنقه ورمى ببصره نحو الشارع فألفاه فارغًا. وما كاد يغادر المنزل حتى وجد عنقه في قبضةِ رجلٍ شرسٍ تمكّن منه ثمّ طرحه أرضًا وهو يقول له:

-        "تقاسُمُ الغنيمة مناصفةً وتعلّمني مما عُلّمت منه، أو أن أسلّمك من فوري للجيران ويقضوا بك ما قاضون". 

تسلل الرعب إلى قلبه وشعر بألمٍ حادٍ من اليدين تلكما اللتين تطوّقان عنقه وفغر فاه وهو يرتعد قائلا بصوته المتهدّج:

-        "نتقاسم ونتعاون.. نعمل من الآن في حقلٍ واحدٍ على أن يكون الأمر سرّا بيننا".

كان يدرك تمام الإدراك أن ما بيده من مالٍ، لو يحافظ عليه جيّدًا، سيكفيه سنةً أو سنتين. وهو يعلم علم اليقين أنه لو يخبر زوجته بحقيقة ماله، فلن تبقى في بيته ساعةً واحدة. كان دائمًا يقسم أن يقهر الفقر في أحلك الظروف وبكلّ الوسائل التي تتاح له ولن يقهره الفقر. سيتمرد كمن تمرّدوا.. سيكون جيفارا بلدته.. وسيصنع المعجزات ولن تصنعه المعجزات.  من الآن فصاعدًا الحياة ستتغيّر. عاد إلى بيته فرحًا وأخذ يتفرّس في وجه زوجته الغارق في النوم.  وودّ لو يوقظها حتّى يخبرها أنه وجد عملًا يدرُّ عليه ربحًا كبيرًا. سيأخذ قرضًا وسيشتغل في تجارة القماش.

لم تصدّق عبير تلك الكلمات. ولم تصدقه منذ زمن طويل. وكل ما قاله يُضاف إلى برميل الذي امتلأ بأكاذيبه، وشرعت كعادتها تقذفه بالإهانات من النوع الثقيل، وتذكّره بجميلها له وصبرها بإنفاقها عليه، ثم أخذت تسدّ في وجهه الأبواب وهو يقسم أيمانًا غليظةً أنه سيأتيها بالمال نهار غد.  ثم قالت في استهزاء: ومن أنت حتّى تحصل على قرض من البنك؟فاشلٌ أنت  يا فاشل!

أجابها بأعصابه الباردة: ستبدي لكِ الأيام ما كنت تجهلينه يا عبير، وستعلمين إن كنت فاشلا أم لا.

تغلَب عليه النعاس، وارتمى على فراشه، وراح يغطُّ في سباتٍ لم ينج منه إلا بعد أن دقت الساعة التاسعة.  إذ ذاك حمل غلته وتوجه إلى البنك فأودع قسمًا منها  فيه. وقبل أن يعود إلى بيته عرج على بيت صديقه الجديد. رحّب هذا فيه واستقبله لتوّه في حفاوة بالغةٍ. وبعد ليليتين بدأ الشبحان عملهما...