التألم صمتاً

يوسف حامد أبو صعيليك

[email protected]

كلنا يعلم أنه يتصنع الشغف بالرياضة هروباً من العالم المحيط به ، فهو منذ صباه لا يكترث بالرياضة عموماً ، وينفر من كرة القدم بشكل خاص ، ويعدها من الترف غير المحمود لا مبرر له ، سوى أنه منذ أكثر من سنة صار ملازماً لجهاز التلفزيون كلما كانت فترة البث رياضية ، بل وصار يلاحق كل مباراة لكرة القدم يبثها التلفزيون حتى وإن بثت بعد منتصف الليل ، كان يجلس أمام الجهاز دون حراك ، والمثير هنا أنه لم ينفعل قط مع مباراة ، أو أي لحظات مثيرة تتخلل المباريات مثلنا ، وهذا ما كان يثير الكثيرين من أصدقائنا ، هو ، وأنا ، بل يسيطر عليه بدلاً من ذلك شرود ، ووجوم وحزن عميق لا يفارقه حتى بعد انتهاء المباراة بفترة ، وإن حدث وكلمته عن مباراة ما ، أو موقف فريق ما فلا يتكلم إلا متلعثماً ، أو معتذراً ، ولهذا كان عرضة للمز من قبل أصدقائنا ، لجهله في هذا المجال  .  وكثيراً ما كان يراقبنا بصمته دون أن يكترث لما يدور حوله من حديث .

ضحك صديق لنا ذات مباراة ؛ وهو يغمز معرضاً به ، وهو يحدق في التلفزيون لائذاً بالصمت :

انظروا إلى وجهه يا جماعة ،  لكأنما يتابع سير جنازة .

لم يتم صديقنا جملته حتى تقافزنا صارخين ، عندما لاحت على الشاشة فرصة لتسجيل هدف لصالح الفريق الذي نشجعه باءت بالإخفاق .

لم يحرك الجبل – وهو الاسم الذي أطلقناه على صاحبنا نظراً لعدم تزحزحه من مكانه أثناء المباراة -  ساكناً ، ولم تتبدل ملامح وجهه كعادته .

 عاد صديقنا للصراخ في وجهه بحنق :

أتمثال أنت ؟، فرصة رائعة مثل هذه تضيعها بصمتك ؟.

  التفت إليه الجبل وقال ببرود :

وعلام هذا الهرج ! ، فرصة لاحت ثم ضاعت ؛ ومثلها الكثير سيضيع .

 قال صاحبنا وقد ازداد غيظاً :

ولماذا تتابع المباريات إذاً إذا لم يكن فيها ما يثيرك ؟!.

عاد الجبل للتحديق في الشاشة دون أن يجيب على سؤال صاحبنا .

 قلت وأنا أتابع ركلة جزاء حركت الجمهور بضياعها دون فائدة :

هذه طريقته الخاصة في الهروب .

    قال الحانق :

مم؟.

   أجبته :

من كل شيء ، من كروب الحياة .

تدخل صديقنا الرابع قائلاً:

_ نعم، إن الحياة مملة برتابتها ، و هذا هروب أنا أؤيده ، لأنه هروب إلى عالم الجمال و الحركة بعيداً عن الملل، عالم كرة القدم .

التفت إليه الجبل ، و قد زحزحته كلمات صديقنا عن صمته مرة أخرى و قال :

هي حياة مصغرة نعم ، و لكن ليس فيها لمحة من الجمال سوى رشاقة المحاربين الجدد في جريهم اللاهث وراء الكرة ،…. أليست هذه سيطرة رغبة النزاع و القتال على هذا المخلوق البائس ؟.

ليس هذا ما يهمنا ، المهم في الأمر أن نحصل على المتعة بعيداً عن فلسفتك.

قال صديقنا الرابع.

قال الجبل :

طريقة الرومان في الحصول على المتعة بأسلوب عصري ، الطريقة البدائية كان العبيد و الحيوانات ضحاياها بهمجية مغطاة بالدماء، أما الطريقة العصرية فهي تعبير لائق عن هذه الرغبة ، بلا خسائر و لا دماء .

لا تحاول إنكار أن هذه النزعة تسيطر عليك ايضاَ و إلا لما كنت هنا .

هذه محاولة لجري إلى مالا أود الإفصاح عنه .

ما تبحث عنه هو الحزن ، و الدليل على هذا تقاسيم وجهك .

   قال الجبل مكايداً :

لن تحصل مني على كلمة واحدة ، و مت بغيظك .

كنت أقربهم إليه ، و أكثرهم معرفة بدخيلة نفسه ، و لذلك لم اكن اصطدم به في هذه المواقف ، غير أني لم أكن راضياً عن أسلوبه في حرق نفسه بهذه الطريقة ، …. نعم هو يفر إلي الصمت ليتعذب ، قالها لي ذات يوم :

لقد صرت أجد المتعة في تعذيب نفسي ، أن الصمت يجعلني أحترق ببطء ، و يزداد احتراقي أثناء المباراة ، و أن كان فيها بعض العزاء لي ، لأني أرى الكل أثناءها يعاني و يتلف أعصابه ، اللاعبون و الجمهور و حتى المدرب ، ليس مقصدي متعة اللعب باحتراق الجميع ، و لكنني أراهم يعوضون احتراقهم بتحقيق النصر عليه بمحاولة كل فريق و جمهوره تحقيق النصر على الخصم أما أنا فأراني بلا تعويض لاحتراقي الدائم ،و هنا بيت القصيد ، فأنا أهرب لأرى مأساة أخرى ، و هي في نظري مأساة أتلذذ بالنظر إليها ليس متعة وإنما انتقاماً من نفسي ، أنا يا صديقي " كالسيجارة " أحترق ببطء دون توقف ، و خروجي من صمتي يضيع علي متعتي في ممارسة القسوة على نفسي ، فوجودي في عالم لا يعترف بالإنسان محض عذاب ، و الهروب إلى المباراة عذاب أخف.

انتهت المباراة بفوز الفريق الذي نشجعه ، فاحتفلنا بالنصر على طريقتنا و أخذنا نوزع المشروب المبرد ،و عندما تقدمت من صديقي الجبل لأقدم له كأسه نظر إلي و هو شبه شارد بمرارة واضحة و تناول الكأس من يدي .