لماذا تقف عند الإشارة الحمراء

أيها السائق :

لماذا تقف عند الإشارة الحمراء !!!؟

د.خالد الأحمد *

تركت الجزائر يوم (16/6/1979) ، تنام في قناطير من الأمـن ، والهدوء ، فقد عشت فيها خمس سنين ما أذكر أحداً طلب مني وثيقة إثبات الشخصية ، ويجب أن نقول الحق حتى لو كان في جانب بومدين ، الذي فرض الأمن والهدوء في الجزائر ...

ووصلت سوريا ، واشتريت سيارة ( وانيت ) لأن قريتي تبعد عن مدينة حماة (15) كلم فقط ، وعشت ذلك العام (1980) شاهداً على أحداثـه الداميـة ، ثم استجاب الله دعائي الذي كنت أكرره طوال العام ( اللهم اجعل لي مخرجاً من سوريا ) ....

وفي يوم خميس ، وكنت قد فرغته من الحصص لمتابعة بناء مسكني الصغير الذي اكتمل عظمه ثم تركته ولم أره حتى اليوم ، وطلبت مني أم ثائر عدة مرات أن أصحبها معي في السيارة لترى دارنا التي سنعيش فيها في مدينة حماة ، ولكنني كنت أطلب منها الانتظار ريثما تكمل الدار فتراها جاهزة ، وهكذا لم ترها ، ولاتعرف الحي الموجودة فيـه ...

في ذلك الخميس مررت على العامل الذي يحفر أساساًَ لجدار الحوش ، وطلب كيس إسمنت فذهبت كي أحضر له الاسمنت من حي جنوب الملعب البلدي ، وداري تبنى في الحاضر ...

كنت ألبس الزي الافرنجي ، مع الشماخ الأزرق ، لأننا في الشتاء ، ووقفت بسيارتي فوق جسر السرايا الذي يفصل الحاضر عن السوق ، عند الإشارة الحمراء ...

سمعت صوت سيارة تفتح المنبـه باستمرار ، فظننت أنها سيارة إسعاف تحمل مصاباً إلى المشفى ، نظرت فرأيت باص البلدية أمامي ، وتحركت بسيارتي بجواره ( من اليسار ) ولكن المكان ضيق ولايمررني ، وكنت أفكر أن أصل الإشارة كي أفتح الطريق لهذه السيارة التي تفتح المنبـه باستمرار ، وفي تلك اللحظات المرعبة فتح بابا السيارة في وقت واحد ، باب السائق فتحه ضابط تناول ( بطاقتي ) من جيبي ـ وكنا نجهزها كما تعلمون في الجيب الأمامي العلوي ـ  ، بل قل خطفها ،ثم رجع بسرعة البرق ، أما الباب الأيمن فقد فتحه عنصر آخر جلس جنبي والكلاشنكوف مازالت مصوبة نحوي ، وأنا أنظر وقد عقدت الدهشة لساني والحمد لله ...ثم قال : امش ...وفي تلك اللحظة فتح الشرطي لنا الطريق ــ استثناء ـ ومشيت ..قلت له : إلى أين ؟؟ قال : المخابرات العسكرية ...

لأول مرة تأكد لي صحة المثل ( إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ) ...مشيت بتؤدة ، ودماغي يعمل بتوتر عالي :

لماذا اعتقلوني من الشارع ؟ لماذا لم يذهبوا إلى الثانوية التي أعمل بها ؟ هل وصل أمر اعتقالي اليوم الخميس ، ولم يجدوني في المدرسة !!؟  كيف عرفوني في الشـارع !!؟  ولماذا يعتقلونني وانا غائب عن سوريا منذ خمس سنوات ومثل الأطرش بالزفة   ؟ وكنت أبحث عن تعليل لهذا الاعتقال في الشارع ، وعند الإشارة الضوئية !!!

وقبل الوصول نطق العسكري ـ وأظنه ضابط صف ـ وقال : تســد علينا الطريق حتى تضربنا العصابة ...ياويلك حتشــوف ...

عندئذ تنفست الصعداء ، وحمدت الله تعالى ، وفهمت السبب الذي اعتقلوني من أجلـه بهذه الوحشية ، عند أكبر إشارة مرور في حماة ، وعشرات المارة يرون ، وتهامسوا : اعتقلوا واحد من الاخوان ، معه سيارة داتسون ، ويلبس شماخ ، ....

وصلنا المخابرات العسكرية في حي الصابونية ...واستلموا مفتاح السيارة ، وقادني أحدهم إلى سلم نازل أسفل ودفعني بقوة ، فنزلت أترنح على السلم ( وكنت شاباً فتماسكت ولم أسقط ) ، ولحقني العنصر ففتح باب ( القبو) وأدخلني بدفعة كالسابقة ، ثم قفل الباب الحديدي خلفي وذهب ....

وجدت عدة كفرات في القبو ...ووجدت معتقلاً واحداً فقط ، مجنون ، راح يسألني عن والده ويقول : هل رأيت والدي عند الباب ؟ لماذا لم يأت والدي حتى الآن ؟ وصار يكرر هذا السؤال حتى خفت من جنونه ... 

لم أرد عليه ، وإنما تجولت في القبو وهو ( 7× 7) تقريباً ، وقرأت على جدرانه آيات منقوشة بخط جميل منها : قل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو نعم الوكيل ، وكان واضحاً من جمال الخط أن الذي نقشـه كان مطمئن البال ، وثابت الجنان ، وبالتأكيد هو من الشباب المسلم الذين كانوا يعتقلون بالعشرات في ذلك العام (1980) ،وتذكرت في تلك اللحظات المسلسل المصري التلفزيوني ( نحن بتاع الأتوبيس ) ، خفت أن تصل مجموعة من المعتقلين ، ثم يساقون إلى دمشق ( فرع فلسطين ) وأساق معهم ... وبدأت أدعو الله عزوجل صامتاً ....

وكنت أســمع وقع الأقدام كلما اقتربت من باب القبو ، فينمو الأمل كلما اقترب وقع الأقدام من الباب ، ثم يذبل الأمل عندما تبدأ بالابتعاد حتى يتلاشى ...وتكرر ذلك عدة مرات ...

اعتقلت بعد خروجي من المسجد لصلاة الظهر ، وسمعت آذان العصر في القبو، ومازلت متوضأً ، ولم أجرأ على الصلاة ، بل فضلت تأجيلها في تلك الساعة المتوترة ، أنتظر فرج الله ، فهم يبحثون عني ، ويريدون التعرف علي ، ونسيت أن أقول لكم أنني حلقت لحيتي بعد وصولي سوريا بأسبوع واحد ، عندما صار وزير الداخلية (عدنان دباغ ) يأمر ويقول : اقتلوا الاخوان المسلمين أينما تجدونهم ...عندما اجتمعت أخواتي وصار يبكين حولي حتى حلقتها ، وبعد أيام لم أطق منظر وجهي ، فتركت ( سكسوكة ) مثل الخليجيين  ...

وبعد ساعات وقبيل المغرب ، فتح باب القبو ونادى العسكري : خالد فأسرعت نحوه ، فقادني إلى غرفة الضابط الذي أخذ ( هويتي ) ... وطمأنني أنه يبتسم ويطلب مني الجلوس على كرسي بالقرب من مكتبه ثم قال :

من أين أنت ياخالد؟ فقلت من قرية جرنية العاصي ...وماذا تعمل ؟ مدرس . ماذا تدرس ؟ الفلسفة .... وكنت ألاحظ اصفرار وجهه كلما تكلمت ...ولكن ماذا أفعل ...وفي أي مدرسة تعمل ؟ في ثانوية عثمان الحوراني وثانوية أبي الفداء ....

قال الضابط : غريب جداً ...مدرس فلسفة في ثانوية الحوراني ...لماذا لانعرفك ؟  عندئذ فهمت اصفرار وجهه ، فقلت : لأنني كنت في الجزائر لمدة خمس سنوات ورجعت قبل بضعة شهور ولم أفهم مايجري في بلدي حتى الآن ...لماذا اعتقلتموني ؟

ضحك الضابط ( وهدأ قلقه ) وقال : لأنك سديت علينا الطريق كي تضربنا العصابة ...قلت : أي عصابة ؟ قال : الاخوان المسلمون ...قلت : كلام غريب ...حتى الآن لا أفهمه ... قال : هذا المكان ، نحن لانقف فيه ، لأن العصابة تنتظر وقوف سيارتنا كي تطلق علينا قذيفة أربجي 

من تحت الجسر ...قلت : مازال الكلام غريباً لم أفهمه ، ولا أخفي عليك أني عشت هذه الشهور القليلة في بلدي مثل الأطرش بالزفـة ...

قال : أنا أقول لك  نحن لاتقف سيارتنا على الإشارة الضوئية ، ونمر من الإشارة الحمراء ... لأننا لو وقفنا جاءتنا قذيفة الأربجي ... مرة ثانية ابتعد عن سيارتنا ، وعندما تراها لاتقف أمامها ...لقد فهمنا أنك تقصد سـد الطريق علينا ، ولو أن طلقة واحدة أطلقت علينا ، لقتلناك فوراً لأننا فهمنا أنك سديت علينا الطريق عامداً متعمداً ....

كانت ( هويتي ) في يـده ، وقلت له : هل تسمح لي بالانصراف ؟

قال : بعد مانشرب قهوة ...قلت : هل تقبل اعتذاري عنها لأنني تأخرت على أولادي وسوف يقلقون علي ...

لكنه أصر على شرب القهوة ، ومعها ( سيجارة ) بعد إلحاحه ، وكنت قد تركت التدخين من ( 5/7/1978) في الجزائر ... ثم عرض علي أن أزوره ، وأتعاون معهم ، وخاصة أنني ابن قرية ، ولايوجد لي ملف عندهم ،( لأن غيابي عن بلدي خمس سنوات دامية متوترة في الجزائر ، جعلت اسمي يضيع ، ولايصنفون لي ملفاً عندهم ، لذلك كانت دهشته كبيرة ، مدرس فلسفة ، ومن القرية ، وفي ثانوية الحوراني ، ولايوجد له ملف عندهم !!!) ،  وهذا دليل على صلاحيتي لذلك ... قلت له : أحاول، ثم أعطاني الهوية ، وطلب من عنصر آخر أن يسلمني سيارتي ، وقبيل مغيب الشمس دخلت مسجداً وصليت العصر في وقت الكراهة ، وكنت أذرف الدموع فرحاً في سجودي ، ورجعت إلى القرية سالماً ولله الحمد ....

ومنذ ذلك اليوم ...لم أعد أمشي أمام سيارة المخابرات ، إذا سمعت صوتها ، أقلل سرعتي ، وأمشي على اليمين حتى تتجاوزني .... وأراهم يتجاوزون الإشارة الحمـراء .... ثم قيض لي ربي برحمته وكرمه عقداً مع المملكة العربية السعودية ، فوصلتها مع أهلي يوم (7/10/1980) ومازلت فيها حتى اليوم ... ولم أدخل ( قبـو) المخابرات مرة ثانية ، وأدعو الله لأخوتي الذين دخلوه أن يبارك لهم حسناتهم ، وثوابهم يوم القيامة ....

               

    * كاتب سوري في المنفى باحث في التربية السياسية