دموع وعرق
دموع وعرق
أحمد ناصر نور الدين
ضمها الى صدره واعتصرها بجنون. بدأت أنفاسه تتردد على صفحة وجهها وتتصارع مع خصلات شعرها الطويل. كان منفعلا جدا وشعر بأن الدم يتدفق في عروقه في غليان. وفي لحظة ما خيل اليه أنه سيفعلها. أغمض عينيه وتقلصت ملامح وجهه بما يشبه الألم. مرت لحظات عصيبة لكن شيئا لم يحدث. وكانت يداه قد أحكمت الطوق عليها. لم تحتمل، فسمعها تأن بين يديه بما يشبه التأوه. حاولت أن تتفلت منه لكنه كان يضمها بقوة لا قبل لها بها.
لم تجد بدا من الشكوى فقالت له مستنجدة:
- أرجوك.. إنك تعتصرني..
بدا وكأنه لم يسمعها. ظل يعتصرها بشدة ورجفة شاملة تجتاح جسده المتعرق.
فاستصرخته بصوت حاد:
- سليم أرجوك أتركني..
ثم صاحت بنبرة عالية حادة:
- سليم...!
صدمه صوتها المستغيث وأخرجه من حالة الإنفعال التي تلبسته. ازداد شعوره بها بين ذراعيه. فتح عينيه وتنهد تنهيدة طويلة حارقة. ورويدا رويدا خفف عنها الطوق. حتى أفلتها تماما. وابتعد عنها ليستلقي على ظهره. قال لها بصوت ميت:"آسف". كانت هي قد نهضت جالسة. نظرت اليه بحزن واشفاق.
ودت لو بإمكانها أن تفعل له شيئا. اجتاحت كيانها موجة من الألم والتعاطف. قالت له بصوت جاهدت نفسها أن يكون خاليا من ايات الشفقة ما استطاعت:
- لا تيأس.. سوف يتحقق لك ما تريد. المهم أن لا تيأس.
ساد الصمت. كانت أنفاسه تتردد بصوت عال في فضاء الحجرة المظلمة.
قالت له:
- أنا تحت أمرك دائما ولن أخذلك أبدا. المهم أن لا تفقد إيمانك بنفسك مهما طال الزمن.
لاحت منه التفاتة قصيرة الى وجهها. وسرها أن ترى ثغره يفتر عن ابتسامة!
"تعجبني عندما تتفلسف من أجلي!" قال في نفسه. ومالت نفسه الى الانفراج قليلا لكن موجة من الشعور بالخيبة والذل اجتاحت اعماقه فازداد تعرقا وكاد يبكي. غالب نفسه حتى غلبها وقهر نازع البكاء الذي طالما يراوده. قال لها:
- تشعرين بالإشفاق علي؟
قالت بسرعة:
- كلا أبدا..
فعاد يلتفت اليها. وقال مبتسما:
- كاذبة!
لم تجد ما تقول. رأت أن تطيب خاطره فانحنت على وجهه تريد لثم ثغره لكنه تحاشاها بنفور أجفلها وجعل قلبها يتقبض.
سادت لحظات من الصمت الثقيل. كانت مشاعره تتناوب على التنكيل به واحساساته بالخيبة والقهر والعجز تلفه من رأسه وحتى أخمص قدميه. وشعر بتيار من الكراهية يندلع في قلبه وقال لها بعصبية:
- ما الذي يجبرك على تحملي يا ترى؟
لم يتنظر منها الاجابة فسارع الى القول:
- لا تقولي أنه الحب. دعيني أخمن... هل هو المال؟ هل يفعل المال بك كل هذا!
تلقت كلامه كالصاعقة. والجم لسانها ولم تعرف ما تقول. هذه أول مرة يسمعها فيه مثل هذا الكلام. هي تقدر ألمه ومعاناته. لكن ما ذنبها هي؟ سمعته يقول:
- لست بحاجة الى عطف منك أو شفقة. وهل تدرين؟ لم يعد يهمني أن يدري بالأمر أحد. بل فليذع سري على الملأ! الأمر عندي بات سيان.
بدأت تشك بصحة عقله. لكنه كان مصمما على المتابعة، قال:
- هل تعرفين؟. أنت مجرد خادمة!
ثم استوى وجلس وهو يحدق اليها بنظرة شيطانية باسمة:
- أجل أنت مجرد خادمة. ومتى كنت أكثر من خادمة؟ وكل ليلة قضيتها معك لا تساوي عندي أكثر من تجارب فاشلة سأعمل على نسيانها تماما. هل تظنين لو كنت قادرا على الزواج سأتزوج منك أنت؟ (ضحك ضحكة معربدة) أنت حتى لا ترتقين الى درجة عشيقة! حتى أن العشيقة أشرف منك!
آنس منها نظرة ارتياع وألم. فازداد تلذذا ومضى يقول بحماس أكبر:
- العشيقة تمنح عشيقها ما تمنحه لانها تحبه وهو يحبها.. أما أنت فلطالما وهبتني جسدك دون تحفظ.. لكن ليس من أجل الحب.. بل من أجل المال! أجل من أجل المال.
اغرورقت عيناها بالدموع وهي في حالة من الذهول لا تستطيع تحريك لسانها.
ونظرت الى جسدها العاري تنتابها مشاعر قوية من الخجل والعار والذل. لكن قلبه لم يرق لها بل ازداد تحجرا. وازدادت نيران الغيظ تأججا في صدره فصرخ بها بصوت كهزيم الرعد:
- ما بك لا تردين؟ّّ!
لم تجبه. فقال:
- وبما عساك تردين؟ لم أقل سوى الحقيقة والحقيقة التي لا شك فيها.
فجأة شعر بارتخاء يدغدغ أنحاء جسده وشعر بشيء من البرد بعد أن جف عرقه وخفت دقات قلبه. فتراجع عنها وأسند ظهره الى حافة السرير. أغمض عينيه. وبدأت أنفاسه تتردد بصوت مسموع مرة أخرى لكن ببطئ هذه المرة.
في تلك الاثناء سمعها تنشج باكية. فلم يفتح عينيه ويلم يلقي اليها بالا. ربما كانت تتنظر منه أن يقوم ويهدأ خاطرها ويعتذر منها. أو على الاقل يتراجع عن كلامه ويعترف بأنه كان قاسيا معها. لكن شيئا من هذا القبيل لم يحدث. وظل في رقدته يسمع صوت بكائها ولا يلين قلبه. حتى دب النعاس في جسده فاستسلم لكبوة أفاق منها منزعجا مذعورا. تلفت فيما حوله فألفى الحجرة خالية الا منه. وومضت في عقله صورة وفاء فتذكر كل شيء حصل في استغراب وعدم تصديق. ناداها بصوت مبحوح:
- وفاء.
لم تجبه. فكرر نداءه لها لكنها لم تجبه كذلك. نهض من السرير والتف بالروب. ثم ذهب ليراها.
جال في الشقة غرفة غرفة فلم يعثر لها على أثر. نظر الى الساعة المعلقة على الحائط في غرفة الجلوس فكانت تشير الى الرابعة فجرا! لقد سرقه النوم ساعات طوال. تملكته نوبة من الخوف والقلق وهرع الى غرفتها فوجد خزانة ملابسها فارغة. الا من بعض القطع. وجد فستانا أحمرا كان قد اشتراه لها الصيف الفائت كما وجد مجموعة من الملابس الصيفية التي اشتراها لها في مناسبات متعددة... لقد أخذت كل ملابسها الا تلك التي اشتراها هو لها.
تولاه الذهول وارتجف قلبه رجفة وجل ورعب. هل حقا هجرته؟! هل يمكن هذا؟ لكن كيف بحق السماء؟! الى اين عساها رحلت؟ لماذا لم تدرك أن كلامه كله لم يكن نابعا من قلبه ولم يكن يقصد منه حرفا واحدا؟ وهل سيمكنه العيش من دونها يا ترى؟
التفت فلمح بروازا مذهبا لصورة قديمة لها موضوعة على الخوان قرب السرير. فتقدم واستلقى على سريرها وأخذ صورتها بيده. تأمل الصورة للحظات ثم أغمض عينيه وغرق في سبات طويل..