المقامة التبريزية
المقامة التبريزية
سعيد عبيد
(مهداة إلى الدكتور محمد بن لحسن أستاذ مبرز الذي رماني بدائه وانسل)
حدثنا إحبيط بن الندمان قال: بينما أنا مستقر الحال في سِلكي، هانئ البال في مُلكي، أغدو إلى إعداديتي العتيدة وأروح، بكبد غير مرضوضة وقلب غير مقروح، لا جزوعا من قابل الأيام ولا هلوعا، ولكنْ راضيَ النفس قنوعا، إذ نزل بي زميل قديم، وصديق حميم، قد ذاق من صُبّار التعلُّم مرارا، وجرع من غصص التعليم جرارا، وأنفق فيهما من عمره ليالي ليلاء، ونهارات نهراء، فلم يقر له قرار، ولا أوقدت بداره نار، حتى أصبح أستاذا مبرَّزا، مكرما في سلكه الجديد معززا. فما زال ذاك الصديق النقريز، يغريني بامتحان التبريز، ويظهر لي من مزاياه التبر والإبريز، ويعدني به أمل التدريس في الدوحة أو باريز، وخصب الرخاء بعد سني الشدة، وعسيلة النكاح بعد طول العِدّة، مستعينا في كل ذلك بسيرته التي تحتذى، وتجربته التي تقتدى، وبنصوص التشريع التربوي، وبنود الميثاق الوطني، حتى إذا ما لمس مني فتورا، أو تقاعسا أو نفورا، كشر لي عن سخط عارم، وغضب صارم، ورماني بشتائم كالقواصم، ثم أرغى وأزبد، وأبرق وأرعد، حتى خِلتُني أمامه كعصفور منكمش، هوى من علياء عش، أو كصغير أبي بُريص، وقع في حيص بيص. ولما لم أجد من الفرار بُدًّا، ولا عن هذه المغامرة مُلتَدًّا، ولم تُغن عني معاذيري، حملت الأمر على أنه مقدور من مقاديري، ورحت أُعد للامتحان عُدته، وأمخض من لبني القديم زبدته، فأخرجت من المصادر المطمورة، والمراجع المشهورة والمغمورة، ما أعياني حفظه، وأضناني ضبطه، فأيقظت ليلي، وأتعبت نهاري، وأرحت بغلي، وربطت حماري، وطويت عن اللهو كَشحي، وهجرت بنـيَّ وعِرسي، و شحذت للهجوم رمحي ، وأعددت للدفاع تُرسي، وهكذا حضّرت جميع مدارس اللغة والأدب، من البنيوية إلى التوليدية، ومن الوظيفية إلى التوزيعية، ولم أنس النحو والصرف والبلاغة، في البصرة والكوفة والمراغة، ولا علم العَروض والإعجاز والإنشا، في "العمدة" و"الكشاف" و"صبح الأعشى"، وعكفت على التيارات الواقعية والرومنسية، والاتجاهات العروبية والشعوبية، والمناهج السيميَائية والهرمينوطيقية، والشكلانية والأسلوبية، وألممت بنصيب من العلوم الشرعية، ومذاهب الأشاعرة والمعتزلة والماتُريدية، والأفلاطونية والأفلوطينية، وشيء من تاريخ الحرب البونيقية، وحضارات الأمم الإفريقية، والخطوط الهيروغليفية، وسيرة "بُوذا" و"مسيلمة الكذاب" و"بانت سعاد" و"الأرض الخراب"، حتى كدت أُجَن، أو ينقلب علي ظهر المِجَن.
فلما كان يوم الامتحان –وفيه يعز المرء أو يهان- سألوني عما أعرف وما لا أعرف، حتى كِدت أُخلِّط أو أهرِف، ترميني لجنة منهم إلى أخرى، باليسرى تارة وبالعسرى؛ فمنهم من يجف عنده الريق، ويعيى من البيان –بين يديه- الـمُتفيهق المِنطيق، ومنهم من لا يفوته منك لحن ولا إقواء، مهما بذلت جهدك في الإخفاء، ومنهم من تعظمه لسمته، وتهابه لصمته، يسكت دهرا، وينطق لماما فتحسب علمه بحرا، ومنهم من يزلقك بلسانه، ويأكلك ببيانه، ولو قدر مشّش عظام مخك غيظا بأسنانه، ومنهم من يعطيك من طرف اللسان حلاوة، حتى يوسوس إليك إبليس –أبعد الله التلبيس- أنه يبغي "قهوة" أو إتاوة، ومنهم من ينصب لك المصائد، ويقيم لك الأفخاخ تحت الموائد، ويجتهد في الإيقاع بك اجتهاد الخصوم اللدائد. فالتفتُّ يمينا وشمالا، فإذا الممتحَنون بين شجاع صنديد، ومتشدّق متعالم، وجبان رعديد، وطُلَعة مُزاحم، إذا دخل منهم داخل بوجه، خرج بآخر سقيما، يحمر ثم يصفر ثم يصير هشيما! فما انقضت أيام الامتحان حتى هلك الخف والحافر، وكاد يتنكّر لبخله مادر، ويُنسب "فحولة الشعراء" لتُماضر، و" الشفا" لابن عساكر! وما كدنا نتنفس الصعداء، ونستريح من البُرحاء، حتى بلغنا اجتماع اللجنة للمداولة، فقعدنا تحت شجرة في الساحة نَعُدُّ الدقائق والثواني، ونُمنِّي نفوسنا الأماني، والقلوب واجفة، والأيادي راجفة، والوجوه عابسة يابسة. وبعد خمس ساعات أو تزيد، نادى مناد من بعيد، بصوت هدّجه طول الانتظار، ورجرجه تعب الليل والنهار:
يـا لـجـنـةً طـال الثََّواء بها، خمسٌ سنينَ مضت وأمضت عمرنا لا يـعـرف الـنوم الهنيئ طريقه حـتـى إذا طمس السُّهار عيوننا جـئـنـا لـيوم الإمتحان وحظنا فـتـحـنَّـنـوا، وتذكّروا إذ كنتمُ وتّـلـبَّـثوا في حُكمكم أنْ تظلموا | ألم تـقـضي قضاءك؟ فالنفوس درس وحـفـظ واجـتـهـاد مُوجع نـحـو الـجفون، ولا النجوم لوامع واحـقـوقـفـت ظُـهرانُنا والأخدُع يـلـهـو بـه حَـنَـش شجاع أقرع طـلاب عـلـم بـالـمـناكب تُدفع فـإذا الأمـانـي الـعـامرات بَلاقِع | جوازع
فعلمت من قريضه الحزين، وألمه الدفين، أنه من التلاميذ النابهين، الذين درسوا في القسم التحضيري وسلك التبريز سنين، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون! وما كاد ينهي كلامه، ويسحب إلى فيه لسانه، حتى أقبل أحدهم يحمل أوراقا بيضاء، فسرنا بين يديه كأنه ملك الموت تشيعه ملائكة السماء، فما إن علق لائحة النتائج، حتى صاح من صاح، وناح من ناح، وطار من الفرحة من طار، وخار من الصدمة من خار. أما أنا، فحمدت الله ذا الِمنن أن كنت من الناجين في سفينة نوح، من بعد أن كدت أنفق في سبيل ذلك الروح وروح الروح. فبشرت الأهل والجيران، وأكرمت الصحب والخلان، وأيقنت بأني سأكرم بتعيين ولا كأي تعيين، وأقول وداعا لدفتر النصوص وللتلقين، وللتاء المربوطة والتاء المبسوطة، والدال المهملة والذال المنقوطة، التي كادت تودي بي إلى التهلكة من كثرة ما رددت قواعدها، أو إلى المارستان من شدة تجاهل التلاميذ لها. فمرت بي ليال طويلة وردية، أحلم فيها بمنصب في الأقسام التحضيرية، أو المراكز التكوينية، أو الثانويات العالية التقنية، فيحملني الحلم الجميل على بساط من حرير إلى جزائر المستحيل، ويهيأ لي أني أطير، على جواد أصيل فوق الفراديس العلى، في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، و... حتى إذا بان الصبح لذي عينين، أبصرت ما تحتي، فإذا هو حمار بلا أذنين ! فقد رموني إلى فلاة أنأى من الأولى نُؤي ما بين الذيل والمبتدأ، وأيقظوا في ذلك الهمة، وفرقوا شملي شذر مذر وأياديَ سبأ، ولم يرقبوا فيَّ إلاًّ ولاذمة، وتركوا أهل التكاليف في الجحور بلا أجور غلطا، وجاروا عليَّ وعلى أمثالي شططا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال الراوي : فما أتممت الحكاية، حتى أيقنت بالنهاية، فكادت روحي تنفقئ لاسيما حين تذكرت الدوحة وباريز!! ففقدت التركيز، وندمت على التبريز، وناديت قبل الهلاك ثلاثا:
أهل الرداءة في البلاد هم الأُوَل وذوو الكفاءة خاملون بلا أمل
فإذا طمحت فكن رديئا مثلهم إن شئت أن ترقى وأن تجني العسل