عش الغراب
محمد صباح الحواصلي
كاتب سوري مقيم في سياتل, الولايات المتحدة
تعلب سلمى الصغيرة مع أخيها أحمد في منتزه أخضر فسيح.
يجلس أبوهما على مقعد غير بعيد عنهما يقرأ جريدة. الشمس الدافئة تنشر نورها المنعش, والنهار الجميل يتضوع بالفرح, مفعم بعبق الحياة, بالطمأنينة. كل شيء من حولهما ينبض بالحياة كوجه الشمس, كحمرة المغيب على سفوح الجبال الخضراء.
تدنو سلمى من وردة برية صفراء. الوردة فرجة, تهتز هونا بين زهور شقائق النعمان مع النسيم الخفيف. سلمى لم تقطف الوردة, فقد أدركت بحدسها الطفولي أن الوردة جميلة بين الزهور الحمر وأنها يجب أن تبقى.
يناديها أخوها:
"سلمى.. تعالي نركض.."
يركضان.. يتصايحان.. يتنفسان فرحا ورديا.
"امسكني إن استطعت."
"سأمسكك.."
يرفع الأب بصره عن الجريدة ويتفقد ولديه بنظرة حانية.
"لا تبتعدا."
يصرخان بصوت واحد:
"حاضر يا بابا."
يشمل الأب المكان بنظرة بهيجة, وتنبض روعة الحياة في كل ما حوله: الشمس, الدفء, الزهور, زرقة السماء, وأشجار السرو الممتدة التي تحجب الأفق البعيد.
يقلب الأب صفحة من جريدته.. يقرأ:
(إن ألف مليون شخص يموتون فورا في حالة وقوع حرب نووية وذلك بفعل السحابة النووية الهائلة التي تتصاعد على شكل عش الغراب. وإن ألف مليون شخص آخرين سيموتون بعد ذلك موتا بطئا بعد مقاساة حروق وآلام بالغة.)
تتراقص أسراب السنونو في السماء ثم تدنو مغردة. الناس يتجولون في المنتزه بأمان, ويغفو عجوز على مقعد تطاولت من حوله الحشائش الخضراء. ينتشي الفرح في عيني صبية لأن الشاب الذي يسير معها وعدها بمستقبل رغيد تصبح فيه الأحلام أطفالا وبيتا دافئا ولقمة هنيئة.. تتشابك زقزقات العصافير المتوارية في بطن أشجار السرو.
ينظر أحمد إلى الهوام كيف تسعى. تنادي سلمى أباها:
"بابا.. أريد أن أبقى هنا, فالأزهار جميلة وأنا أحب العصافير والشمس."
(وسوف تؤدي الانفجارات إلى ارتفاع سحابة من السناج تقدر بمائتي مليون طن إلى ارتفاع ثلاثة أميال فوق سطح الأرض, وهذه سوف تمتص 95% من أشعة الشمس فتغرق الأرض بالتالي في ظلام دامس وتتوقف عملية التمثيل الضوئي اللازمة لنمو النبات والمحاصيل.)
الطفلان فرحان مثل الوردة البرية الصفراء, يلعبان باطمئنان; فأبوهما هناك.. يكفي أن يكون بالقرب منهما حتى ينهزم خوف الدنيا كله والليل الذي يخبئ في حلكته الجنيات.. وها هي الشمس الدافئة, والدنيا الجميلة من حولهما تضج بالحياة.
تبصر سلمى على الحشائش الخضراء عصفورا ميتا:
"أحمد.. انظر!"
"يا الله! عصفور ميت!"
"مسكين. ترى من قتله؟"
"الصياد."
تقول سلمى بنبرة مشحونة بكثير من الحزن:
"كيف يجرؤون على قتل عصفور!"
يطرح الأب الجريدة جانبا, ويثبت بصره على ولديه. يمور الخوف في داخله, لا يريد أن يصدق أن هذا الرعب ممكن! يحس أن كل شيء يضيق عليه الخناق حتى النسيم العليل. يهزه أن هذا العالم الجميل لا يريدونه أن يبقى. ينادي ولديه:
"تعاليا.. سنرحل."
"نريد أن نبقى.."
"المنتزه جميل يا أبي."
"لا أريد أن أترك العصافير.."
"الشمس دافئة يا أبي.."
لكن الأب يمسك بيديهما الصغيرتين ليجتاز معهما العشب الأخضر.
وعندما أذنت الشمس بالمغيب كان الطفلان ينعمان بلذة الدفء والأمان في فراشيهما, وكان كل شيء خالدا كحمرة الغروب على سفوح الجبال الخضراء