أقدام فوق الهامات

محمد حسن فقيه

[email protected]

رفعوه على حبل المشنقة عاليا ، فرأى جلاديه ... صغارا ... أقزاما ...  بل أرقاما .

كانوا يقذفونه بنظرات الشماتة والتشفي .

وكان يرنو إليهم راثيا بنظرة المشفق الحزين .

كانت قلوبهم تتفجر غضبا ، وتتنزى سما ، وتقطر حقدا أسود دفينا .

 وكان قلبه يطفح  بحب فياض ، ويدعو لجلاديه وأسيادهم بالرحمة والهداية .....

 فقد فتحت له كوة هناك ..... ورأى مقعده فوق عاليا .... وساميا ...

لقد طوقوا الحبل حول عنقه بيد مرتجفة ، وأبصار واجفة ،  وأعصاب مشدودة .

 وأما هو فقد كان هادئ النفس ، رابط الجأش ،  ثابت الجنان ، يذكر الله ويوحده بنفس مطمئنة ، وروح راضية ، قبل أن يقوموا بفعلتهم الشنيعة ، ويسحبوا الكرسي بأيديهم الآثمة من تحت قدميه الطاهرتين .

اضطرب جسده قليلا وتدلت رجلاه تتأرجحان فوق رؤوسهم عاليا بهدوء وطمانينة .

لقد عاش جلادوه بعده واللعنات تلاحقهم في بيوتهم وبين أهليهم ، و تحاصرهم في تجمعاتهم ونواديهم ، وتمطرهم في الأسواق وأزقة الطرقات والدروب  ، وتطاردهم أينما حلوا أو ارتحلوا ،  في الصحف والمجلات ، والكتب والندوات ، وكل وسائل الإعلام والفضائيات ، في حياتهم قبل مماتهم  ، وستبقى تلعنهم أجيالا بعد أجيال  ، على مدار التاريخ والزمان .

عاشوا أذلاء ....  صغارا .... بل أقزاما ، حتى في نظر أسيادهم وأرباب نعمتهم .

مات قبلهم في عرف الأنذال والأقزام ، لكنه رحل شهيدا بعز وشهامة ، وارتفعت روحه تسمو محلقة إلى عليين  في عرف المؤمنين من الأباة والأحرار .

أغمضت عيناه ، ونام هانئا مطمئنا ، راضيا مرضيّا .

وبقيت عيون جلاديه خائفة مذعورة ، يطاردها أنصاره في يقظتها ، فيقضون مضجعها ، ويلاحقها شبحه في منامها ، فتفيق منتفضة  مرعوبة .

عاشوا منبوذين مكروهين .... مهمومين مكروبين ..... تعساء ..... أشقياء ... غرباء .

وعاش مثلا عاليا  سامقا ، وأنموذجا حيا فريدا ، وقدوة رفيعة سامية ، ومنارا مشعا هاديا ، للأبطال والأباة والشرفاء .

لقد رحل مطمئنا ، بينما كانت أقدامه تتدلى بهدوء فوق هامات جلاديه  ....  وأسيادهم  .

لقد كان حذائه أثقل من رؤوس جلاديه  ..... وأنزه .... وأعز..... وأكرم .

مهداة إلى الشهيد عمر المختار .... وجميع الذين ساروا على نهجه  وانتهوا كنهايته .... وكل الذين سيقتفون أثرهم ويسيرون على نهجهم  في المستقبل.