إنه الدولار أيها العربي الطيب..

محمد صباح الحواصلي

إنه الدولار أيها العربي الطيب..

محمد صباح الحواصلي

كاتب سوري مقيم في سياتل, الولايات المتحدة

[email protected]

 (1)

 وتدخل معهم رائحة التشرد, نتنه لزجة, يدفعها هواء المدن الآثم القادم مع أجسادهم, وتعجل مكيفات هواء السوبرماركت بإيصال الرائحة للأنوف. هي خليط من عرق الأجساد التي هجرت الماء و امتزجت مع التراب والرطوبة وعبق السجائر الرخيصة وقيء الخمرة.. حتى عشب ضفاف النهر الأخضر الذي يفترشونه تحت جسور مدينة سياتل وضواحيها له حصة من رائحتهم.

إنهم هؤلاء المشردون الذين آنسوا ارتياد مخزن "شارع 44" فأصبحوا يأتون في كل وقت ليبتاعوا السجائر والبيرة الرخيصة, أو يسرقوها إن امكنهم ذلك, ويثرثروا مع طلال قدري الذي يصغي إليهم دائما باهتمام كما يراقبهم بحذر. لم يكونوا غافلين أبدا عن رأي الآخرين بهم.. ولم يكونوا يوما آبهين بما يقال عنهم, لكن الأمر مع هذا الكهل, الذي ينادونه (تلال), القادم من بلاد العرب المشبعة بالشمس والرمال الذهبية والبخور والعقيق والياسمين كان مختلفا..

في اذهانهم صورة عن وطنه البعيد: "أصحيح يا تلال أنكم تعيشون في قصور نيفة فيها حريم وولدان, وشواء  وارز مجبول بالخمر والزعفران؟ وأنكم ترتحلون على ظهور بعيركم, مخلفين قصوركم وبقايا شواء, إلى ما وراء الصحراء حيث ينبت ليل آخر في حضن شمس أكثر إغراء.. أصحيح.. أنكم لا تعرفون الجوع, ولا تميزون بين أبعاد الزمن الثلاثة.. وتخافون الله وتهابون السلطان وتحبون النساء؟"

صرخ طلال ضاحكا مندهشا من جملته المولفة: "رويدك.. رويدك.. من أين أتيتَ بهذا الكلام المضغوط المركزعن العرب, يا برنس؟ هذا كلامٌ متعوبٌ عليه, كلامٌ جاهزٌ في ذاكرتكم. أهذه قناعتكم عن العرب؟"

   "ألا تعتقد أنها الحقيقة يا تلال؟"

    "الحقيقة هي أن الذي رسخ هذه القناعة في أذهانكم عن العرب هو نفسه الذي جعل منكم مشردين.."

"اسمح لي يا تلال أن أخالفك في هذه, لأن الذي جعلني مشردا هو صاحب أمي."  وفرقع ضحكة مجلجلة وضحك معه الجميع, أقصد, البدين الذي يرمي نفسه كل صباح عند بوابات المزارع منتظرا قبوله كعامل قطف "مياومه" في حقول "أبرن" والذي ما يزال يعامل الآخرين باحترام وخجل. والمرأة الفيتنامية التي لا تكلُّ من سرد قصتها وهي تركض باستماتة وراء آخر طائرة تغادر مطار هانوي , وكيف تعلقت بها بأعجوبة وسحبها المهاجرون إلى داخلها, في رحلتها إلى الفردوس المنتظر: أمريكا. أما الثالث, "سافج", وهو شاب عيناه لا توحيان بالثقة, كالثعلب يغتنم غفلة طلال لتمتد يده إلى أي شيء قريب منه ويدسه في بنطاله, وإن رآه طلال تظاهر بأنه يحك عانته. ثم أخيرا تشارلز, الملقب بالأمير تشارلز , لشبهه الكبير بالأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا. مشردٌ في الستين قصير القامة, انحناءة ظهره مشبعة بالانكسار والإرهاق, أما مكان إقامته هو ورفاقه فحسب الفصول.

ففي الخريف, الفصل الذي  تغضب فيه أمنا الطبيعة بجنون, يلتصقون ببوابات الكنائس والجمعيات الخيرية أو مشافي "هاربر فيو" و "السودش" و "فرجينيا ميسن" هربا من الأمطار والرياح, والتماسا للدفء.

وفي الشتاء يدلفون إلى داخل الكنائس والجمعيات حذر البرد القارس والأمطار التي لا تكف عن الهطول, أما مَنْ لم يعدْ جسده قادرا على غضب شتاء منطقة "بيوجت ساوند" فتراه ينعم بأيام في غرفة دافئة في مشفى "هاربرفيو".

أما فصلا الربيع والصيف فلهما شأن آخر لأنَّ المشردين يعودون مع عودة الدفء إلى أماكنهم المفضلة تحت جسر اوتوستراد "آي فايف" عند تقاطع شارع جيمس مع الجادة التاسعة فهناك ينامون ويبولون ويتغوطون ويشربون قهوة "ستاربكس". وعندما تغفو المدينة وتغيبُ بعيدا آخر سيارة شرطة في سيرها الوئيد كثعلب شبعان, يشعلون لفافاتهم, ويخرجون زجاجات البيرة التي سرقوها أو شحذوها من معاطفهم يكرعونها ثم يفرغون مثاناتهم فيها ويدحرجو نها إلى نهاية المنحدر المنتهي بالشبك الذي يفصلهم عن الشارع, وعندما تعربد البيرة في رؤوسهم ويطيش حس الزمان فيها يغيبون داخل أغطيتهم وتندس أيديهم في أبدان بعضهم وتنزلق إلى أسفل, إلى بؤر النشوة والغياب,  يمارسون الاستنماء, وغناء (البلوز) الحزين تحت الاغطية النتنة.

 (2)

 يدخل "البرنس" السوبرماركت بعد غياب طويل.. يصرخ طلال:

"أين أنت يا رجل؟ حسبتك مت."

"ولماذا أموت إذا كانت شوارع أمريكا ترعاني.."

"أين كنت إذن؟"

"في الدنيا الواسعة.. أضيُّعُ الأيامَ.. لعنة الله عليها لا تريد أن تنتهي."

"وأين الباقون يا برنس؟"

بحركة  من البرنس  فهم طلال أنه بحاجة إلى سيجارة لكي يجود في الحديث. أعطاه طلال بدلا من سيجارة علبة (بولمول) دون فلتر, فرقص البرنس فرحا.

"أوه.. أيها العربي الطيب.. لقد أفتقدت كرمك, وكان من الحمق أن أغيب عنك لزمن طويل."

"لم تجبني يا برنس أين الباقون؟"

"تسألني عن الآخرين؟ الفيتنامية انفجرت الزائدة الدودية في بطنها وماتت تحت جسر أوتستراد (أي فايف) القريب  من مستشفى هاربرفيو. والمؤدب تزوج عاهرة وأصبح قوادا, وهو الآن أكثرنا سعادة, ينكح كل يوم ويأكل طعاما طاذجا وينام في سرير وثير. أما "سافج" الأشقر, الذي وصفتَ عينيه بأنهما لا توحيان بالثقة, فقد سيق إلى العراق مع الكثير من شباب عشائر التشرد.

"جندوا ليحاربو في العراق!؟"

"جاء رقيبان باللباس العسكري الأنيق, والحلاقة القصيرة, والابتسامة الجذابة واختاروا بعضا من رفاقنا الشباب الأصحاء, وتحدثوا معهم في قارعة الطريق.. واقنعوهم بأن يلتحقوا بالجيش الأمريكي بعدما اغدقوهم بالوعود."

"والآن هم في العراق؟ أليس كذلك؟"

"نعم, هم في العراق.." ثم أضاف البرنس ضاحكا:

"لقد خاس كل واحد منهم بضعة باوندات بعد أن غسَّلوهم ونظَّفوهم وحلقوا شعورهم وركَّضوهم ليذيبوا شحوم التشرد عن ابدانهم.. وأنتَ إن رأيتَ "سافج" الآن لما عرفته لقد أقسم عندما دس دولاراتهم في جيبه على أن ينفذ أوامرهم هناك بكل طاعة وأخلاص.. إنه الدولار أيها العربي الطيب.."

صمت طلال وتشاغل عن البرنس بمسح الطاولة قرب الآله الحاسبة وتلقى بقية كلام البرنس في صمت مشغول مشحون بالأسى. أخرج البرنس سيجارة بولمول, ولعَّب حاجبيه مفتخرا بالسجارة بين شفتيه, وسار يجر رائحته وخطاه المتعبه إلى خارج المخزن ليدخن سيجارته.. وفيما هو يخرج التفت إلى طلال وأشار بيده نحوه وهو يقول:

"إنه الدولار أيها العربي الطيب."

رآه طلال من خلف الزجاج وهو يقدح بقداحته الرخيصة محاولا اشعال سيجارته, ثم وهو يدخنها بنهم وقد بدا سعيدا فيما هو يسير ويحدث نفسه.