سوق ساروجة
سوق ساروجة
محمد صباح الحواصلي
كاتب سوري مقيم في سياتل, الولايات المتحدة
ثم جاء الغروب وتبعته العتمة, وحدث أنني بقيت في بيت جدتي, وشممت رائحة السمن
البلدي فعرفت أن عمتي "بهيجة" تقلي لنا البيض. ومن النافذة المطلة على درج (الفرنكه)
المفضي إلى أرض الديار كان بإمكاني أن أراها من خلف ستار المطبخ الأبيض الشفيف
تحرك البيض في المقلاة. كنت جائعا وقد لذني أنها تحضِّر لنا العشاء, وكان عليَّ
أن أصبر.
سألتني جدتي:
"انبسطتو بالعيد اليوم يا تيته؟"
"كتير.."
"وأين قضيتم العيد؟"
"في سوق ساروجة.."
"حلو العيد هناك.. مو هيك يا تيته؟"
أجبتها:
"كتير حلو.." وقلت لها أيضا "وأنا زعلان لأن بكرة آخر ايام العيد."
"لا تزعل يا تيتة.. العيد الكبير ما بطول ليجي."
وقالت أيضا:
"تعرف يا تيتة.. أنا كنت مثلك أعيِّد هناك, في سوق ساروجة."
"من زمان كثير.. مو هيك تيتة؟"
"من أكتر من خمسين سنة."
وقلت لها:
"وكنتِ تزعلي وقت ما بيخلص العيد."
"كنت متلك ازعل كتير.. وكانت ستي تقول لي ماتزعلي بكرة العيد الكبير بيجي"
وسألتها:
"تيتة.. "
"يا روح تيته.."
"هل كان عندكم مراجيح وجوجو وفول نابت؟"
"كان في كل شي"
"وكنتوا تنبسطوا متلنا؟"
"طبعا يا تيتة.. كنا نفرح وننبسط كتير."
وسالتها أيضا.. وكان واضحا لها أنني خرجت عن الموضوع:
"تيتة.. لماذا العيد بسوق ساروجة؟"
"لأنَّ سوق ساروجة بركة."
"شو يعني؟"
أجابتني:
"ييي يا تيتة يعني الكثير. في حكاية ورا ها الأسم."
"احكيها لي تيتة"
ولكي اضعك, يا مولاي القاريء, في جو الحكاية, الجو الحقيقي للحكاية, فلابد أن أذكر
لك أن الليل في الحي القديم, في بيت جدتي تحديدا, كان ليلا حقيقا غير مغشوش, يتحلى
بما تعوزه الحكاية من صمت, ويدب في عتمته خطو الترقب, ويتناهى إليه ما يلزمه من
أصوات بعيده تضفي على الحكاية جو الرهبة, ونباح يجد طريقه بيسر ورهبة إلى مسامعي من
اقاصي مقبرة الدحداح خلف حي العقيبة.
وبدأت جدتي تقص حكاية اسم سوق ساروجة.
يُحكي أنَّ ولياً من أولياء الله كان يسكن ذلك الحي, وكان هذا الولي من (أهل
الخطوة). وأهل الخطوة يا تيتة معناها هؤلاء الأولياء أصحاب الكرامات الذين كانوا
بقدرة رب العالمين يتنقلوا من مكان لآخر بلمح البصر.. يعني هلق بكونو هون وبعد شوي
بيصيروا في مكة.
"معقول يا تيتة؟"
"طبعا يا حبيبي معقول.. هي قدرة الله التي وضعها فيهم."
"بس أنا ما بصدق.."
"أوعه تكفر.. يا حبيبي."
"طيب وليش ما يضعها فيَّ أنا؟"
"الله بيعرف شغله يا تيتة.. خليني أكمل الحكاية. وفي يوم من الأيام.. كانت أمُّ
الولي تطبخ (كبه لبنية) وتعرف جيدا أن أبنها الولي يحب الكبة اللبنية وكان وقتها في
مكة. فنادته ( وكان بينهم وصال عن بعد ) قالت له: "طبخت لك اليوم كبه لبنية يا إبني."
فقال الولي لأمه: "إذن أنا آتٍ اليك, إن شاء الله, يا أمي حتى آخذ منها نصيبي واطعم
أصحابي في مكة" وما هي الا لحظات حتى كان الولي في الشام في الحي الذي صار اسمه سوق
ساروجة وأخذ نصيبة من الكبة اللبنيه وعاد إلى مكة وأكلها هناك مع صحبه وكانت ما
تزال ساخنة.. ومن وقتها سموا الحي بساروجة أي (سار وإجا).. سار عبر الزمن بقدرة
قادر من مكة, وجاء إلى حيه في الشام ليأخذ نصيبه من طعام أمه.
ويباغت حلاوة غرقي في حكاية جدتي صوت عمتي وهي تنادي من خلف شباك المطبخ: "أمي جيبي
الأولاد وتعو تعشو."
انتهت حكاية جدتي, وبدأت حكاية أخرى معي. إذ أنني شغلت بحكاية (أهل الخطوة) هذه. لم
أحكِ الحكاية لأحد خوفا من أن يسلبوها مني, ويصبحوا بقدرة قادر من أصحاب الخطوة..
وتمكن مني الإعتقاد بأن قدرة الله لا تخص البعض, بل ربما تصيب آخرين وينالوا منها
من الكرامات.. ولمَ لا أكون أنا أحدهم! وذات يوم جاهرت صديقا بأنني قادر أن اتواجد
في مكانين بلمح البصر! سخر مني, واغتظت منه, ووجدتني مضطرا بأن أقصص عليه حكاية
الولي الذي هو من أهل الخطوة. وانتهيت من حكايتي وسط ضحكه الساخر قائلا: "وهل صدقت
كلام العواجيز هذا؟"
لم اجبه.. لكن السنين التي مضى منها الكثير أجابتني على نحو مرض. فلم تكن صدفة أن
جرثومة القراءة كانت مستوطنة في دمي, وأنني أصبحت مواظبا على "المكتبة الظاهرية",
وأنني عشقت الكتب كثيرا, وأنني صرت معنيا بمدينة دمشق وتاريخها, وأنني ذات يوم عرفت
من مصادر عدة عن مدينة دمشق أن سوق ساروجة أو (صاروجه) قد سمي باسم الأمير صارم
الدين صاروجة, أحد أنصار الأمير "تنكز". ذلك الأمير الذي فسخته حكاية الكبة اللبنية
إلى قسمين: سار وإجا!