اللُّغز

منال المغربي

[email protected]

نظرة عتب رمقتْه بها عندما تعانقت نظراتهما، فبلع باسل اللقمة بصعوبة وتساءل: «تراها عرفت؟!»، ولكنه عاد وطمأن نفسه: «لا، لا أظن ذلك؛ وإلا لكانت صارحتني».

- «لماذا أنت شارد الذهن؟... بك شيء يا صغيري؟» سأل أبو باسل.

- «لا، لا، أبي، ولكن ولكن...» لم يجد باسل إجابة مقنعة؛ فترك ملعقة الطعام من يده وخرج مسرعاً من الغرفة، اندهش الأب من تصرّف ابنه: «ما به اليوم؟ فهو على غير عادته! كما أنه لم يُنهِ عشاءه، هل هو متوعك»؟

-  ردّت الأم بحزن: «نعم متوعك، ولكنها وعكة أخلاقية وليست صحية».

- نظر أبو باسل بتعجب إلى زوجته وقال: «وعكة أخلاقية!! ما هذا اللغز؟ لم أفهم شيئاً».

في الوقت الذي كانت فيه أم باسل تصارح زوجها كان ابنها الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره في غرفة نومه يقلّب النظر بين الوسادة والمئة ألف ليرة: «يجب أن أفتش عن مكان أكثر أمناً»، وذهب في مخيلته بعيداً يرسم أحلاماً وينسج أمنيات «سأشتري ألعاباً كثيرة، وسأشتري الكثير من الحلوى والعصائر و..و..و..» علت الحَيرة وجهه البريء حينما تذكّر: «ولكن أين سآكل كل هذه الحلويات؟ وفي أيِّ مكان سأحتفظ بالألعاب؟».

صباح اليوم التالي لم تبادره أمه بابتسامة عريضة كما هي العادة، بل اكتفت بردّ التحية باقتضاب. تفرّست في وجهه وهي تساعده في لبس الثياب: «يبدو أنك لم تنم جيداً، لماذا يا ترى؟»، في سرّه همس «كيف أنام وكوابيس تراودني أنكِ وأبي وجدتما المئة ألف ليرة؟»...

 كلام أبيه أنقذه من الإجابة: «أتعرفين ماذا حصل مع جارتنا أم أحمد البارحة»؟ زادت خفقات قلب باسل عندما سمع اسم جارتهم صاحبة الدكان، وتعمّد التباطؤ أثناء لبس الحذاء ليسمع ما تبقّى من الحديث: «لقد أضاعت مئة ألف ليرة لبنانية، المسكينة بحثتْ عنها جيداً ولكنها لم تجدها» علّقت الأم: «هذا السارق ألا يخاف الله؟ مَن يطاوعه قلبه على سرقة امرأة عجوز وحيدة ليس لها معيل ولا مصدر رزق إلا هذا الدكان»؟

اعترى باسل شعور شديد بتأنيب الضمير فأراد أن يصرخ بأعلى صوته مدافعاً عن نفسه: «لم أسرق لم أسرق إنّما وجدتها في الكيس عندما اشتريت الأغراض»، ولكنه عاد واحتفظ بتلك العبارة لنفسه.

بصعوبة أنهى باسل واجباته المدرسية؛ فالشعور بالهمّ والقلق والذنب أفقده التركيز: «تعالَ باسل شاركنا اللعب». أبعد باسل كفّ  أخته الصغيرة عن ذراعه صارخاً بها: «اتركيني لا أريد أن ألعب».

 بقي على هذه الحال حتى حان موعد الجلسة العائلية التي كان يتشوّق لها دائماً، ناداه والده: «ألا تريد أن تنضم إلينا؟ فأمّك اليوم ستروي لنا قصة لطيفة لم نسمع بها من قبل»، هزّ باسل رأسه بالنفي، فجُلّ تفكيره كان منصبّاً على المئة ألف ليرة، أخذ يطرح على نفسه أسئلة عدة: تُرى هل المئة ألف ليرة من حقي حتى أستمتع بها كما أشاء؟ أم هي من حقّ الخالة أم أحمد العجوز المسكينة؟ تناهى إلى سمعه صوت والدته وهي تروي القصة لإخوته «في أحد الأيام اشترى رجل أرضاً من أحد الأشخاص فوجد فيها جرة مليئة بالذهب» لم يستطع باسل منع نفسه من الإصغاء إليها «يبدو أنّ قصة الرجل تشبه قصتي» همس باسل لنفسه وتذكّر المئة ألف التي وجدها  في أحد أكياس المشتريات عندما ذهب لشراء بعض الحاجيات التي طلبتها منه والدته من دكّان الخالة أم أحمد.

 أخذ يقترب رويداً رويداً من المكان الذي تجلس فيه العائلة ليتابع تفاصيل القصة، أكملت الأم وقلبها يرقص فرحاً من منظر صغارها... فأعينهم كانت منصبّة عليها وكأنها تلفاز يعرض فيلماً مشوّقاً: «ذهب مشتري الأرض عند البائع فقال له: خذ ذهبك، أنا اشتريتُ منك الأرض ولم أشتر منك الذهب...» صمتت الأم هُنيهة تلتقط أنفاسها، وزاد سرورها عندما لاحظت أنّ باسل اقترب إلى المكان الذي يجلسون فيه ليسمع القصة رغم أنه كان يتظاهر بالعكس «أمي ... أكملي... ماذا حصل بعد ذلك؟» صاح الصغار.

- «الذي حصل يا صغاري أنّ البائع بدوره رفض أخذ الجرّة وقال للمشتري: إنّما بعتك الأرض وما فيها» شعر باسل أنّ جبال القلق والذنب التي كانت جاثمة على صدره وفكره قد زالت فجأة، لم يستطع إخفاء السرور الذي ظهرت معالمه على وجهه فخاطب نفسه قائلاً: «إذن المئة ألف هي من حقّي مثل مشتري الأرض».

وخاب أمل باسل عندما سمع تعليق والده بل زاده شعوراً بالذنب والضيق: «سبحان الله هذان الرجلان يطبِّقان ما أمر الله تعالى به في كتابه الكريم: (إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها).

 - «صحيح، ومَن لم يؤدِ الأمانة يكون خائناً لأن الله تعالى يقول: (لا تخونوا أماناتكم) أضافت الأم وعيناها تراقبان الانفعالات التي تعصف بولدها الذي ما زال يحدّث نفسه: «ألا يكفي أني سارق بل خائن أيضاً»؟!

قطع عليه حبل أفكاره حديث والدته: «إزاء رفض الرجلين أخْذ الجرّة قرّرا أن يحتكما إلى شخص معروف بعدالته ونزاهته ورجاحة عقله».

- دُهشت الأم عندما صاح باسل: «وما كان حكمه»؟

- أضافت الأم: «كان الحكْم يا باسل أن قال الحَكَم َ لهما: ألكما ولد؟ قال الأول: لي غلام؛ أما الآخر فقال: لي جارية، وهنا أصدر الحَكَم قراره فقال: زوِّجوا الغلام للجارية وأنفقوا عليهما وتصدّقا بالباقي».

شعر باسل أن المئة ألف أفلتت كلياً من يده عندما علّق والده: «على المسلم أن يقنع بالحلال ويترك الطمع فيما ليس له، وأن يستشير ويسمع آراء مَن هم أكبر منه وأفهم وأعلم»

- قفزت ريم - الابنة الصغرى- من مكانها وهي تصفق بيديها: «كما نفعل نحن صحيح أبي»؟

- نظر الأب إلى طفلته بحنو: «طبعاً حبيبتي طبعاً» ثم نظر بطرف عينه إلى ابنه الذي يحاول جاهداً إخفاء الدموع التي تتسابق للانحدار على وجنتيه: «لا أريد أن أكون سارقاً أو خائناً أو طمّاعاً ولا عاقّاً، لا أريد ذلك أبداً».

في اليوم التالي صبّحت أم باسل ولدها بقبلة وبابتسامة مشرقة أضاء لها قلب صغيرها، ثم غمزته قائلة: «يبدو أنك نمت جيداً البارحة عزيزي»، لم يردّ ولكن نظرته الخجول دلّت على ذلك.

أستأذنت الأم سائق الباص، بعدها سارا معاً باتجاه دكّان أم أحمد التي استقبلتهما ببشاشة، وفوجئت العجوز حينما مدّ الصغير لها يده قائلاً: «خالتي... هذه المئة ألف ليرة كانت موجودة في كيس المشتريات عندما تبضّعت من عندكِ منذ يومين».

نظرت الخالة إلى أم باسل مبتسمة، ولم تزد على قول: «ولدي .. بارك الله بك وبأهلك... ما شاء الله... تبارك الله... نعِْمَ الأخلاق، سأسميك من الآن فصاعداً باسل الأمين»

- ابتسمت أم باسل وقالت مودِّعةً: «حسناً خالتي أم أحمد، نستأذن منكِ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»

- «ليس بعد أمي» شدّ باسل يد أم أحمد فأحنت رأسها إليه؛ فهمس بأذنها: «ألكِ جارية»؟

فغرت الخالة أم أحمد فاها مشدوهة: «ماذا؟ جارية؟»

لم تتمالك أم باسل نفسها من الضحك... فدفعت ولدها خارج الدكان وهي تعتذر من الخالة وتعدها أنها ستشرح لها في وقتٍ لاحق، لأنّ باص المدرسة بانتظار صغيرها، فغادرا المكان وصوتُ الخالة أم أحمد ما زال يرنّ في أذنهما: «جارية؟ لم أفهم شيئاً؟ ما هذا اللغز الغريب»؟l