الثور النائم
أحمد ناصر نور الدين
في غمرة الليل المظلم ظل يسير متأرجحا باحابيل الخمر. الى ان وصل الى البيت أخيرا. بيته يقع في اخر الحارة و يحيط به من جانب المقبرة و من جانب اخر الخلاء المقفر الذي لا تدب فيه دابة. اما بيوت الحارة و عمائرها فتلوح من شباك غرفته في اخر مرمى النظر دفع البوابة السوداء بيد ثقيلة و دلف الى الحوش الذي يكتنفه الظلام, و هو يتمتم باغنية سمعها منذ ايام حيث لا يدري الان. قطع مجاز الحوش في صمت بعدما أثقلت عليه ظلمته و تكاثفت مع الصمت المطبق.
بهدوء و حذر شق الباب و دلف الى داخل البيت محاذرا من اصدار اي صوت ان يصحى النائمون. كانت حجرة المعيشة هادءة يكتنفها الصمت فقطعها ماشيا على رؤوس اصابعه باتجاه غرفة النوم. وقف خلف الباب و نظر عبر شقه و حدق ببصره فالفى زوجته تغط في نوم عميق جدا " أوف شخيرها كخوار الثور ... يا ساتر"
و بنفس التروي عاد ادراجه الى غرفة المعيشة ثم تدانى من مقعد و هو يغالب دوارا ثم تهالك على المقعد فأصدر دويا كبيرا ازعجه كدوي مدفع. فنظر بغتة نحو غرفة النوم مشفقا من صحو زوجه ساخطا على نفسه سخطا شديدا.. هو في العادة قوي يتمالك امر نفسه لكن .. الخمرة لعنة الله على الخمرة!! لكن ما حيلته هو ان كان حاله لا يعدل الا بشربها و لا يشعر للدنيا طعما الا اذا افرغ في جوفه عدة كؤوس مترعة!
القى بقذاله الى الخلف و اغمض عينيه في تسليم لما يخامره من شعور اختلط فيه الصمت مع الدوار مع ترانيم الأغاني الطروبة فداخلته بقية باقية من نشوة يفقدها لدى عودته لهذا الجحر الموحش.
و هو على تلك الحال شعر بثقل في جفونه و كأن نارا اشتعلت بهما و في انزعاج كبير ادرك ان نورا اشتعل بالمكان ففتح عينيه فيما يشبه الجزع و حدق في الضوء مبهورا ضيق عينيه و ركز بصره فاذا بها الخادم الزنجية صباح!
كانت تبدو على وجهها ايات من الخوف و الارتباك.
سمعها تقول بصوت واهن:
- أهذا انت يا سيدي؟!
فقال بانزعاج :
- أجل و من عساه يكون غيري؟
ثم أضاف بامتعاض:
- ما الذي يبقيك ساهرة الى هذه الساعة هه؟
حدق في وجهها باهتمام فلمح فيه علامات من الخوف و الارتباك. لكنها سارعت الى القول:
- كنت نائمة يا سيدي .. نمت بعد المساء بقليل.. لكنني صحوت الان على صوت مزعج فجزعت و جئت استطلع الامر!
فأشاح بوجهه عنها متبرما و قال بعد ان اغمض عينيه:
- حسن حسن .. عودي الى نومك من جديد.
- حاضر يا سيدي.
و قفلت راجعة من حيث اتت فتلاشى بذهابها كوكب النور و غمر الظلام المكان كرة أخرى
فعاد اليه هدوءه و شيء من نشوته الضائعة.
لو افاقت زوجه الان لكانت مشكلة كبيرة . و ربما شجر بينهما خلاف و علا الصوات و الصراخ. هذا دأبها كلما أفاقت على رجوعه من السهرة و خاصة اذا كان به سكر! لكن ما خطبها هذه المرأة؟! هل تظن نفسها في معتقل؟ اليس للرجال حق في الترويح عن انفسهم من مصاعب الحياة؟ الا تكفيه هو مشاكل العمل و متاعبه؟!
لكنها لا تقدر النعمة التي هي فيها .. أجل اليس من الكرم منه ان يحويها في بيته هذا العمر كله بعد ان فشلت في انجاب ولد له يقر به عينا . كان حري به ان يطلقها و يتزوج بأخرى غيرها فتنجب له من الاولاد ما شاءت له أبوته المحرومة. أما هي فلترعاها السماء و ما شأنه بها؟! هذه لطفية و قمر و غيرهما يعيشان بلا رجل و لا معيل لكنهما تعيشان بعرق جبينهما. أجل بعرق جبينهما و لم لا. فما من مهنة في الارض مهما كانت وضيعة الا و يتكبد اهلها مشاقا و اثقالا في سبيلها. لكن أواااه ما الذي دهاه كي يخطر بهذه الخواطر الملعونة؟!! اهي الخمر يا ترى؟ ربما لكن لا ينبغي له ان يتمادى كثيرا في هذه الخواطر ان يتطاول به الندم حيث لا تغيثه الخمر! انها تبقى زوجه و محسوبة في عرضه و شرفها شرفه مهما كان من أمر.
رغم كل شيء فهو راض بحياته او انه مكره على ذلك لكن لا بأس فهو يسعى لنفسه لما يرضيها و يجعلها اقدر على تحمل الحياة. فلماذا لا تدعه و شأنه؟ لكل امرء في الارض مذهب فلتمضي في مذهبها و ليمضي في مذهبه و ما يتحمل المرأ من اوزار لم يكن حمالها!!
لكن هيهات ان تعي كلمة مما يقوله لها في العادة.
" الا تخجل من شيبك يا شيم الرجال؟!"
"لقد فضحتنا في الحارة و سيرتك على كل لسان!"
تقول فضحتنا! ها .. بمن تقصد فضحتنا .. فضحت من؟ ليس في البيت الا انا و هي لكن لا هنالك ايضا الخادم صباح .. بلى تبقى صباح في عداد الاشخاص اليس كذلك؟ نعم صباح تأكل و تشرب مثلنا تماما فلماذا لا تحسب في عداد الادميين؟!
لعنة الله عليك يا شوقي كف عن هذيانك.
لو كان في العمر متسع لفر من حياته باسرها الى حياة أخرى مختلفة كليا. يعيشها في مكان بعيد جدا يعيشها بهدوء و صفاء كما يحلو له ان يحيا الحياة..
لكن الى اين مفره؟
أو لعله يقدم على الانتحار! فقد راوده هذا الخاطر غير مرة لكنه كان ينبذه معتلا شتى المعاذير. حتى الانتحار بات الان متعذرا بل هو ضرب من العبث.
لقد جاوز الخمسين من عمره.
أيام تجرها أيام و العمر ماض. فلنر الام ستبقى ايها العمر البائس متلويا في ازقة هذه الحارة المنكودة.
فجأة اشتعل في جفنيه النور من جديد لكن هذه المرة كان نورا اخر لم يأتيه من جهة المجاز المفضي الى غرفة صباح. انها زوجته بلا شك!
امتلئ قلبه توجسا لكنه لم يبدي حراكا بل ظل ساكنا مظهرا هيئة النوم.
سمع وقع خطاها مقتربة منه. زاد توجسا و اشفق من الاتي! و بغتة احس بيدها تهزه
هزا خفيفا ثم طرق سمعه صوتها يقول:
- شوقي شوقي انهض .. لقد حل الفجر!
بعد برهة قصيرة حرك رأسه قليلا ثم فتح جفنيه بثقل و نظر اليها نظرة سريعة فالفى وجهها هادئا لا ينم عن شعور و اعادت عليه قولها السالف " انهض فقد حل الفجر"
في غرفة النوم اعانته على تبديل ملابسه في صمت تام.
شرع في تبديل ملابسه و هو يقلب الامر في باطن علقه في عدم تصديق. ليس من عادتها هذا الهدوء كله و لا هذا الصبر و تعينه على تبديل ملابسه ايضا؟!
لا بد انها تخبئ له شيئا ما اجل .. فقد تنتظر حتى يأوي الى فراشه فتبدأ معزوفتها الاعتيادية.. ربما! انه ليس متأكد تماما هذه اول مرة تلقاه هذه الملاقاة.
انتهى من تبديل ملابسه فابتعدت عنه و اطفأت المصباح الغازي ثم اعتلت السرير فتعالى صريره. لبث هو واقفا في الظلام برهة غير مصدق و كأنه ينتظر حدوث امر ما لكن شيئا لم يحدث. و ها هو يسمع شخيرها يعلو من جديد! عجبا!
شخيرها مزعج أجل لكنه خير من صواتها على كل حال!