يوم في حياة فقير
رنا سليمان
في الصباح الباكر
نظر إلى النافذة المغلقة وهو ما يزال مستلق على فراشه فوجد أن الضوء يقارب على
الظهور
, فنظر نظرة
سريعة إلى زوجته التي ما تزال نائمة فوجد أن الغطاء قد فارق كتفيها , أخرج يده من
تحت الغطاء وسحبه ليغطي أم فارس ، ومن ثم أخذ يتأمل في ملامح وجهها , وبدأ الضوء
ينير الغرفة الصغيرة الباردة , وبدأت تجاعيد عيني أم فارس تتضح أكثر فأكثر , وأبو
فارس يزداد حنيناً كلما رأى في وجه أم فارس علامات الشيخوخة والتعب, وبعد قليل قام
أبو فارس وأسند ظهره إلى الوسادة المحشوة ببعض الملابس الصوفية القديمة والمخاطة في
كل ناحية منها .
نظر أبو فارس في أرجاء الغرفة الصغيرة ذات السقف العالي
والجدران المتآكلة , فشعر ببرودة الجو , وعاد ليختبئ تحت غطائه المرقع , ونظر إلى
النافذة ليرى خيوط الشمس التي تنفذ من خلال الزجاج المغطى بالجرائد , وبدأ يستمد
منها الدفء لمجرد كونها أشعة شمس , مع أنها شمس الشتاء التي مهما اشتدت لا تدفئ
أحداً, وسحب يده من تحت الغطاء لينظر إلى الساعة التي تشير بعقاربها إلى السابعة
صباحاً قام مسرعاً وبدأ يصيح :
أم فارس الأولاد لقد تأخروا عن المدرسة .
نهضت أم فارس مسرعة وهي تصيح :
فارس , أحمد... المدرسة
وأعادت الصراخ:
أحمد فارس انهضا
نهض الولدان مسرعين ليفتحا صنبور الماء , ومدا يديهما
وسحباها بسرعة لشدة برودة الماء .
فصرخ أبو فارس:
بسرعة يا أولاد اغسلوا أيديكم ووجوهكم .
مد فارس يده وسحبها,فلم يبلغ الماء سوى رؤوس أصابعه مسح
عينيه ,ثم ارتدى الولدان ملابسهما وخرجا مسرعين .
اتجه أبو فارس إلى الخزانة الخشبية القديمة وفتح بابها ,
فمال وكاد أن يقع , قال أبو فارس وهو يصيح :
إلى متى سيبقى الباب هكذا ..........
فقاطعته أم فارس : إلى أن تصلحه
وأخرج بنطاله وقميصه الرقيق والجاكيت الطويل ,أمسك
ببنطاله فتذكر أنه مهترئ عند ركبه , فقال :
عندما أستلم راتبي سأشتري..........
عادت أم فارس لتقاطعه : هذا كلامك عند آخر كل شهر .
ارتدى أبو فارس الجاكيت الذي خبأ عيوب البنطال وأخذ
نظارته فوضعها على عينيه وخرج من البيت مسرعاً
مشى أبو فارس متجهاً إلى عمله ، ولكنه شعر لأول مرة أن
لا رغبة لديه في العمل , بدأت خطواته تتثاقل , وبدأ يجوب الشوارع والطرقات وهو شارد
الذهن , وأخذته خطواته إلى الميناء ليتأمل هؤلاء العمال الذين يحملون أكياس الطحين
والسكر على ظهورهم , وبينما هو يتأمل ذلك العامل العريض الكتفين والطويل القامة ,إذ
وقع منه كيس السكر فبدأ يلمه بيديه الباردتين ويعيده إلى الكيس , وإذا بمراقب
العمال يأتي مسرعاً ليصرخ في وجه العامل , غير آبه بجسده الضخم العريض ,ضحك أبو
فارس ضحكة تنم عن السخرية .
أكمل طريقه فأخذته قدماه هذه المرة ليقف أمام دكان صغير
, وهو ما يزال مستغرقاً في التفكير ,نظر إلى طفل صغير يبيع الخضرة والفاكهة في هذا
الدكان , وفي أثناء وقوف أبي فارس جاء أحد الزبائن ليشتري تفاحاً, أخذ يكلم الطفل
الذي لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره ويقول له :
أريد تفاحاً جيداً !!!
فقال الطفل : أبشر .
تابعه أبو فارس بعينيه فرآه يضع القليل من التفاح
المعطوب في أسفل الكيس الورقي , ضحك أبو فارس ضحكة مليئة بالسخرية وازدادت سخريته
عندما رأى الولد يضع شيئاً من ثمن التفاح في جيبه, وعاد أبو فارس ليكمل طريقه .
مشى كثيراً ، توقف أمام محل لبيع الدجاج المشوي , أخذ
يحدث نفسه :
سأجلب للأولاد دجاجة مشوية ..............
ولكنه قاطع نفسه وهو يمد يده إلى جيبه ويخرج ما به من
النقود , فلم يجد إلا بضع قطع معدنية لن تشتري له ولا فخذ دجاجة , أكمل طريقه ليشعر
بتعب قدميه و جوع معدته الفارغة , وبدأ يسرع متجهاً إلى البيت , وعندما اقترب من
البيت , بدأ يشم رائحة البطاطا المقلية بالزيت , ويقول: لابد أن أم فارس قد حضرت
لنا البطاطا المقلية,تذكر أنه لا يوجد لديهم زيت , فاتجه إلى البقالة الموجودة في
حارته ، تذكر أيضاً أن ما معه لا يكفي ثمناً للزيت , فقال : لابد أن أم فارس قد
استعارت الزيت من إحدى جاراتها .
أخذ يسرع أكثر فأكثر ويداه مخبأة في جيوبه , وصل إلى باب
البيت تكاسل أن يخرج يده فطرق الباب بقدمه , فتحت الباب أم فارس فدخل ونظر إلى
مسكة الباب محدثاً نفسه : ( أوه لابد من إغلاق الباب ).
مد هو يده ومدت أم فارس يدها ليغلقا الباب , شعر ببرودة
يدها ونظر إلى التشققات الخشنة التي عليها , وأغلقا الباب ، دخل الغرفة فوجد
المدفأة غير مشتعلة , فقال : يكفي النظر إليها .
وسأل عن الغداء , فأجابته أم فارس ملغية كل آماله بغداء
البطاطا المقلية : بطاطا مسلوقة .
أكل أبو فارس دون
الشعور بطعم ما يأكل , فقد أراد إسكات معدته , وذهب بعد إنهاء غدائه ليستلقي على
فراشه وتحت غطائه المرقع وفي
غرفته الصغيرة
الباردة .