حكاية "بَيْصَرَةْ "

محمد المهدي السقال

حكاية "بَيْصَرَةْ "

محمد المهدي السقال

القنيطرة / المغرب

[email protected]

و" بيصرة " رجل طيب السريرة , إذا رأيتَه وتأمَّلْته , نصعَتْ في وجهكَ جبهتُه وقد نال منها الصَّلع المبكر ,

لم يصدِّق أبداً أن سقوط شعره كان علامة على ذكاءٍ أو عبقرية, وإلاَّ لكان قد أفْلح في المدرسة مثلَ أسياده , كما ظل يُعيِّره أبوه قبل موته ,

أكثر من مرة , حاول إقناعه بلا جدوى ذلك الفصل اليتيم في " الدوار ", يصل المعلم المسكين منهوكاً بعد قطع مسافة عشر كيلوميترات سعياً بين الجبال , يأخذ مكانه المعهود لاستعادة أنفاسه , وعينُه على ما أحضرناه من فطور ,

نسمع مضْغه خلف الحجاب الفاصل بيننا , فنسخر منه , كان نموذج المدينيِّ  في أذهاننا ,

لم تنفضح ألاعيبُه , سوى ساعة الامتحان الجهوي, كان اجتياز " الشهادة " في المدينة القريبة منا بنحو نصف يوم, بين امتطاء الحمير والضرب في الأرض بالأقدام ,

وحين رسب " بيصرة " لعامه الثالث , حلَّت به لعنة الأب كما يحل غضب الملوك على وصيفة أو وزير في القصر , لعله كان السبب المباشر في اضطراره لهجرة القرية ,

بلغ به العمر عامه الثلاثين , دون أن تتاح له فرصة رؤية وجهه في مرآة , يفكر في شرائها , ثم يعدل , كلما تخوف من تلمس التجاعيد التي تسابق الزمن على ساحة بشرة الوجه الجميل الذي كان , يستيقظ فجراً على جرس الساعة المنبهة كل " أحد " , يمشي في الأسواق , لكنه على غير عادة عباد الله الصالحين , يكتفي بمسح جنبات وجهه , قبل الخروج بحثا عن رزقه في الحرام ,

تردد في القيام , الجو مطير , و الكسَّابون أصحاب الجلابيب الصوفية المزدوجة , لن يفارقوا جُنوب أزواجهم في مثل هذه الصباحات , بعد ليلة باردة , سيحاولون التماس الدفء , دون خوف أو حرج من انفتاح شهيتهن لشيء ,

جرب " بيصرة " كغيره من العزاب استقدام امرأة من سوق الهوى , بعدما عاند اشتعال الشهوة بالصوم كما تعلم في" مسيد " القرية ,

يوقظها قبل انقشاع الضوء في " الكاريان " , حرصاً على مشاعر الجيران من حوله , كم راكم من قطع " الكرتون " بين غرفته الوحيدة وغرفهم الملتصقة كالجذام , وفي كل مرة , يسأل نفسه عما يمكن أن يكون قد أحدثه من زفير يتجاوز حرصه الشديد , ثم يبتسم , حتى المسدس كاتم الصوت , يمكن أن يخطئ , يستقيظون كالنمل بعد نوم مبكر على شمع يذوب معه تعب النهار ,

لكن " بيصرة " محتاج لبعض النقود اليوم بالذات ,

يمعن في رصد المقبلين على سوق "البهيمة " , يتعقَّب سرَحان رجل بين قطيع الأبقار الهولندية , حتى إذا تأكد من شمِّ حاسَّته لرائحة السيولة تحت إبطه , موقناً بما لا يدع مجالا للشكِّ في أنَّه من الكسَّابين المحترفين ,

دنا منه للاحتكاك به , في البداية يختبر ردَّ فعله ,

ولأن " مُولْ الْـفَـزْ كَـيْـقْـفَـزْ " كما علَّمته أمُّه ,

فإنه سرعان ما يضرب أسداساً في أخماس , ليُخمِّن الزاد المحتمل في عملية الصباح ,

و " بيصرة " رجل مؤمن , لا يمدُّ أصبُعيه بمهارة الحاذق في التقاط ما تيسَّر, إلا بعدما يسمِّي الله , و يدعو: يا فتَّاح يا رزَّاق ,

حين أمسك به الحاج " قدُّور" الجزَّار , غارقة يده في" شكارته" , لم يلم إلا نفسه , تذكر أنه لم يتوكَّل على الله ذلك الفجر , وكانت النتيجة , ثلاث سنوات سجن بالتمام والكمال ,

رغم توالي أكثر من مناسبة , لم تلْحقه نوْبة العفو التقليدية , سأل أحد النزلاء من طينته , في انتظار الأمل بالإفراج عنه , بعد قضاء عامه الأول , وسأل ثانية بعد عام آخر ,

كان جواب رفيقه هو هو ,

لا أمل قبل انتهاء المدة المحكوم بها ,

أما هؤلاء الذين تسمع بالعفو عنهم , فأصحاب وسائط , ترفع أسماؤهم بتوصيات مدفوعة الأجر , ثم تتحرك آلة السمسرة , علم فيما بعد , أن الشهر من ثلاثة بألف درهم, وأن السنة من خمس , بعشرة آلاف ,

يكون مزاد المواسم مرهونا بالمناخ وأحوال الطقس في المدن الداخلية, وكما في الأسواق , رأس الغنم ليس كرأس الحمار , لذلك , صار" بيصرة " حريصا على الافتتاح بالدعاء , وهو يحمد الله على نجاحه المتواصل لأكثر من عشرة آحاد ,

لكن " بيصرة " متعب هذه الأيام , فقد بلغه استفحال مرض أمه بالفشل الكلوي , غير أنه لا يستطيع زيارتها , بعد ما أعلنت براءتها منه , سخطت عليه أمام الملأ , وطردته من الخيمة كما يطرد الكلاب , كل السكان شهدوا الواقعة , لم يضره سوى حضور " فاطنة ",

حين كان يعود من المدينة ممشوط الشعر أنيق اللباس, يمر على بيت عمه لغاية في نفسه,

يسأل عنها العيال, ثم يدلف وعيونه على الخم الفسيح , حيث تكون بين الدجاج ,

كيف يرفع عينيه في عينيها , بعد الذي صار , أحس أن وطأة أمه أهون , فالوالدة المريضة لا شك قد نال منها الموهن ,

من يدري , ربما هي نفسها تسأل عن رؤيتي قبل موتها ,

ولم يستطع " بيصرة " الحسم , عينه على صدر الرجل المنتفخ جهة اليمين , وذهنه سارح في " الدوار ", بين امرأتين ,

دنا أكثر حتى احتك به ,

دعا الله في سرِّه مُتوكِّلا عليه ,

وما هي إلا رمشة عين , حتى كان الذي كان يجب أن يكون .