مسالك أسئلة الخلاص

مسالك أسئلة الخلاص

خالد ساحلي

[email protected]

مشى نحو المسجد ، كان الآذان يملأ فراغ  الفضاء  للمدينة ، يتثاقل في خطاه ، كان يحدد موضع القدم أمامه ، كان منحنيا متواضعا أشد ما يكون عليه تواضع العبد  لخالقه  ، ينظر للأرض و هو يطوي هذه المسافة التي تبعده عن المسجد و ساحته ، كانت يداه للخلف تمسك إحداهما الأخرى ، كان الناس يهرولون ، يركضون ، يتسابقون في نفس الاتجاه ، قال في نفسه " كلنا نلبي النداء أترانا نسرع للوقوف بين يدي الله متلهفين لقائه ؟ " عض على شفته السفلى و قطب حاجبه و هو لا يزال ينظر إلى مواضع الخطى ، "المتسابقون لرحمة الله ، كان عليهم فقط ألا ينهروا السائلين الواقفين على أبوابهم طالبين المعونة ، قال لهم الله أسرعوا في قضاء حوائج عبادي الضعفاء المساكين من الفقراء و الأيتام و المكروبين ، أصحاب الحاجات ، إن الإسراع في رفع الغبن و الهمّ و الحزن عن البؤساء يماثل العبادة التي يتلهف العابد لتأديتها ، إن في عون العباد راحة نفس وسمو روح و رضا الرب ، لن يعدم صانع المعروف جوازيه . " قال في نفسه الكثير و قد تحركت شفتاه كأنه يشركهما، يطبع ما يفكر فيه عليهما ليكونا شهيدين.

 " أتراهم يستريحون حين الوقوف بين يدي الله وتبعات الضعفاء والجائعين و المظلومين في رقابهم ، الكادحين المهمّشين المرضى و العجزة  ، الذين استضعفوا في الأرض ، المأكولة حقوقهم ، ألبسوا سرابيل الباطل زورا وقهرا " كان ينظر في هذه الأجساد ،  تمثلها زوارق في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب و ظلمات ظلم واقع يحياه مع الآخرين، من يحدد اتجاه هذه الزوارق في هذه التيارات الجارفة ؟ هل تجري بالأرواح التي تسكنها حقا ؟ أم أن إرادة أخرى تحدد لها مصيرها ؟ كان يسير وهو يفكر في كل حاكم على الأرض أقام بـِنَاء ً يعبد فيه الله وطرّزه بالذهب و الفضة و النقوش ليجمع فيه الخلق ليتقربوا فيه من الله و يشتغلون بالدعاء لهم ، كان يفكر في الحاكم الذي بنى لله بيوتا و شرد عباده  للجبال والأقبية ، جعلهم كالحيوانات في أكواخ القش وبيوت القصدير ، طردوهم من رحمة الله ليدخلوا أبواب الشياطين. ترى من يعرف الله حقا ؟ " رفع جبينه عاليا لتلك الزرقة ، الله في السماء ، شعر بثبات روحه وطمأنينة استقرت في أعماقه ، كان على كل من يفكر في هذا أن يصرف وقته وجهده في تبليغ الآخرين وينشأ بعث رسالة من جديد ، رسالة الله للإنسان ، أن تصرف خيرات الله و أمواله لسعادة عباده ، ليعيش الإنسان مكرما ، لقد كرمه الله حيثما حلّ ، فلما يهينه الحكام و دوائرهم " كان يمشي الهوينى ، يلعق التفكير عقله ، أنة في شفتيه ، يغتم كلما ركب السؤال ، يصير لون وجهه أصفر كأوراق الخريف ، كريات دمه ملّت دمه ، لبست ثوب العتاب، تعبت هي كذلك من دمه ، دمه كذلك تعب من مجراه ، يمر عليه الراكضون، يتقدمونه ، المتعجلون يلقون عليه التحية ، يرد عليهم السلام ، دون التعجل في الخطو ، لا يجرأ أن يحث رجلاه على ذلك ، لا يتحرك إلا بدافع روحه و تفكيره معا ، روحه مشغولة مع فكره في قلق السؤال ، يصل باب المسجد ، ينزع نعله الجلدي ، أسماله المتآكلة ، يضع حذاءه بهدوء  في رف الأحذية المخصص لذلك ، الآخرون المتعجلون يضعون نعالهم في فوضى ، يسابقون الوقت للمثول أمام الله ، يدخل المسجد يشعر برهبانية ، ينظر في الصفوف ، قبل أن يصلي ركعتي التحية ، يلحظ أكثرية المصليين بثياب بيضاء ، فيهم الأعيان و الأشراف من رئيس المدينة إلى حاكمها ، قضى صلاته ، انتشر في الأرض ، أثناء خروجه سمع احد المصليين يشكو سرقة حذاءه الغالي الثمن ، كان يطوي مسافة العودة وصورة الأبيض تمناها لو كانت في القلوب السوداء الحاملة لوجع الإنسان و شقائه ، كان وهو عائد من الصلاة يغور في عمق السؤال متطلعا للإنسانية جمعاء ، للذين يبيعون الخراب و يصدرون  الموت ، المعلنون للحروب و المشعليين للفتنة ، وحدهم هم من يملكون قدرة بناء الصوامع و الكنائس و المساجد ، هم من يطلب من القديس و الراهب و الإمام و الحبر أن يعلن آيات الله وأسفار الرب ونشرها في مواكب الجنائز و المقابر وفوق التوابيت ، هؤلاء الدافنين سبل  سلام الإنسان ، العاملون على تحويل العبادة سلوكا بشريا بلا روح ، هؤلاء من يخنقون الإنسان بما يصنعون له من مآسي و شقاء " أتعبه هذا التفكير الذي كاد أن يكلفه حياته في إحدى أيام الصيف ، مضى متثاقلا في الأزقة التي ترش رائحة الألم من بين أركانها وزواياها ، تفضح عورات وجعها في صور فاجعة للحرمان ، من هذه الأزقة يمشي شبحها متثاقلا معه كلما مر عليه ، يجر الشبح الخيبة في التغيير ، ناقما على الأيدي الصانعة لقدر الإنسان ، كان يمر على الأزقة و المشردين نائمون على الأرصفة ، اللصوص مدققون ، متكئون على الجدران ، المياميس يلتقطن الزبائن كما تلتقط الحرباء الذباب ، يفرشن أعمارهن المزهرة سلعة للبغي لأجل لقمة العيش التي دفعتهم للخطيئة و المعصية ، كان يسير متثاقلا وقد بدت له هذه الأزقة نوافذ تطل على  العالم ، هل يشبه العالم بعضه بعضا ؟ كاد نفَسُهُ يتقطع كما قلبه و أمامه رجال يتسارعون للعودة لديارهم يمرون على نفس الأماكن دون أن تتغير هذه الأماكن ، يتسارع الناس للعودة إلى عاداتهم الخفية المتستر عليها ، كما يعود آخرون إلى مخابرهم لاختراع وجع آخر منتظرين وقت العبادة لتطهير أرواحهم من الخطايا و الذنوب المقترفة في حق بعضهم البعض ، كان عليه أن يتأكد من الأكاذيب و لو تمسك العالم بمصطلحات الحريات الفردية و الجماعية ، كان عليه أن يمشي وحيدا متثاقلا ،  يتصور نفسه  ماشيا في كل أزقة العالم ، في فضاءات متعددة ومتنوعة . سأل نفسه هل أنا أشبههم ؟ لا أحد يستطيع خلق نفسه إنما يصنعها أو يرسمها غيره.