جوع

جوع

 ياسمين مجدي

لن أستطع إستضافته في شقتي كما أتفقنا.

أنقطعت الكهرباء عن الجنوب ....لم أعرف سبب ذلك لأنني لا أستمع لأي نشرة أخبار وليس لي رفاق يحادثونني في تلك الشئون حينما نلتقى يومياً في البارات نتشمم روائح الرقصات الصاخبة ...نعطيها ظهورنا في البداية ونشرب ثم نستدير لها و نعانقها....أشعر بالجوع وأنا أرقص فأعود لطاولتى أطلب طبق اللحم البارد الذي أعتدت إلتهامه كل ليلة ...ثم أعاود الرقص.

 فى تلك الليلة تصاعدت الأضواء من خلف نافذتى...تشتعل وأراها تسقط بعيداً وتتضائل ثم تخفت فتذعرني بصوتها القوي القريب ...الذي يبدو كأنه أخطأني مرة فأتسائل ماذا عن المرة القادمة؟.

 شربت وأنا أغني لنفسي ...شربت وبكيت....هربت إلى دفتري ..إلى أكياس الصور أتشمم رائحتها فتعانق أنفي كرائحة بخور بيتنا التي كانت تتصاعد من جدرانه كل ليلة كأن أمي تتحدى عساكر الدوريات التي تمر لتطمئن على سلام مستوطناتها ....يقتحمون البيت فأرى أبي يُصَّلِبْ ....يركلون باب غرفتي بأقدامهم فتمسك أمي فتحة جلبابها لا تفلته أبداً إلا بعدما يرحلون ..يَعَلق شعر عروستي بقدم أحدهم فيجرجرها دون أن يرى ....أجري لأسحبها من تحت خطواته فتشدني أمي أنزوي في جلبابها وأبكي يمسح أبي على رأسي ويبتسم ..أراه بعدها بأيام قد أشتري مذياع لنسمع من خلاله أغنيات "الست " و "الكروان الأطرش" .....أوصَلُه بالكهرباء ورفعه على مائدة عالية حتى لا نصل له ونوقعه أنا أو أخوتي ...وجلس إلى جواره ينتظره ليغني لكنه لم يغن أبداً سوى مرة وحيدة حين دخلوا ببنادقهم التي تدفع الأشياء كلها بعيداً عن طريقهم ...لم يستدر أبي ليرحب بهم ...كان منزوي إلى جوار المذياع ينتظره لينطق بأي شيء حتى لو كان سيغني أغنية كاذبة عن وطن آخر....ضحك الجندي على أبي الجاهل ..أقترب منه بوجهه البارد وضغط على زر في المذياع فعلا صوته بكلمات ..كلمات ..كلمات ...قطعها صوت إنطلاق رصاصة في جسد أبي .... لكنه إنتصر حين سمع مذياعه مرة ...مرة دون أن يغني.

 هربت أمي بنا تجرجرنا في ذيلها فيسقط الكثير من أطفالها في الطريق ..تتركهم لأنها تعرف أن هناك من سيأتي خلفها ليحممهم و يلفهم في أردية بيضاء ثم يضعهم في بيت هاديء لا يصله أحد.

 

وبقيت معها وحدي لتغني لي كل ليلة ...تضفر شعري بعد أن تحممني في الطشت في المياة شبه النظيفة. فأهمس لها أنني أريد أن أغني..أرفع صوتي بكلمات أعتدت سماعها في المخيم دون أن أفهم معناها ...تبتسم أمي ...أغني ...تبتسم أمي ..أغني فيقطب الجميع في وجهي ..أنكمش في أمي.

 هدأ قليلاً صوت الإنفجار يمكنني الآن أن أتصل به ليأتي نقضي الليل معاً في سرير واحد ....عرايا بلا جنس ...نشرب ونضحك بصوت عالي ثم يحدث ما لم نكن نريده في هذا الوقت أو ما كنا نريده ليطمئننا للحظات نتحدى فيها الأصوات والأنوار فيصبح عالمنا عالم آخر.

 لم أجد حرارة في الهاتف في اللحظة التي نفذت فيها زجاجتي فبدأت أشعر بأنفاس خلفي تصطدم بشعري فتحركه ..أستدرت له ......فكان مسيو مايكل الشخص الوحيد الذي لم أرد رؤيته في مثل تلك اللحظة ...ضحكت كأنني أصرخ وأنا أضع يدي على فمي أخفي صوت تجشأي.

 - مسيو مايكل شو جابك في هيدا الوقت ..أنت عفريت مسيو مايكل؟!

 ضحك ولم يجب ضربته بالزجاجة في كتفه ورحت أحكى له أشياء لا أعرفها ...وكلام لا أفهمه لكنه مد يديه فجأة على صدرى فسكتّ وأنا أتسلل بعيني أتابع يده تصعد وتصعد وتصعد وأنا صامتة أتابع فحسب

 - مسيو مايكل بد غني

 مقاطع من أغاني فيروز هكذا علمتني أمي قبل أن تتركني ...وبعض كلمات كنا نغنيها معا كل ليلة بعد أن نلتقطها من أفواه الجيران في الصباح ...تغني أمي ... وإن هلهلتي هلهلنالك رافعنا الرايات جبالك وإن هلهلتي أحنا رجالك وإن هلهلتي يا أم جبيل واحد منا يقابل مية .....اتعودنا عيشة الحرية ومن يم الأردن جينالك ......يوم أن هبت عواصفنا وما قدر العدو يوقفنا قوة العبد اللي بتنصفنا وبتضوي هالليل الحالك .....جاهد يا أبو جبيل العالي ودمك على كل مسلم غالي يا شمس تضوي الليالي وليالي روحي لحالك....هلي علينا يا بشايرنا هلي ... هلي علينا يا بشايرنا هلي.

 تغني أمي ...لا يبق غيري وغيرها ..أجري ..أخرج بعيداً عن المخيم أجمع أحجار كثيرة ..وأعود لأكتب أغانينا في أوراق ثم أربطها بالأحجار وألقى بها في قاع البحيرة حتى إذا ما هاجموننا هنا أيضاً أذهب أتحسس قاع البحيرة أحملها وأهرب بعيداً ..أغني .

 ما لم أحسب حسابه هو أن تنحني أمي تنتقى البندورة من البائعة فيأتيها زائر خرج لتوه قوياً مندفعاً ليصيب الهدف ...أجري على بيتنا أحمل صورتها وأهرب ..أتركها واثقة أنها ستجد من يحممها و يسكنها بيتها .

 بعيداً بعيداً أكتشفت أننى وصلت ..حيث كنت كان مسيو مايكل ... حيث غنيت لعلني آكل.

 - مسيو مايكل بتضوي الدنيا ...بلا هيدا الشغلات .

 - ما تضوي شو علاقتنا احنا.

 رأيت شيئاً في تلك اللحظة يمر من أمام نافذتي مسرعاً براقاً كأنها وجوه أخوتي تلقي السلام ...تضيء بقوة وتنطفيء فيتهدم الجدار الأمامى للبيت ثم تصمت كل الأصوات المخيفة ويهدأ الأفق.. بدأ مفعول ما شربت يزول عني في نفس اللحظة التي بدأ فيها مسيو مايكل يفتح آخر زر في ملابسى .

 دخل أبي علينا فخجلت منه وبكيت منتظره منه أن يضربني أو يصمت فيجلدني بصمته لكنه تقدم و ركل مسيو مايكل وجذبني من يدي وقفزنا من واجهة البيت المتكسرة.

 رحنا نجرى في الطرقات مبتعدين ...نحو البحيرة أتجهنا ...للأغنيات .

 تذكرت في تلك اللحظة أنني جائعة :

 - بابا بدي آكل؟

-

- بعدك جعانة حبيبتي؟‍ !

              

كاتبة مصرية

صدر لها رواية بعنوان امرأة في آخر عمر الأرض

وتعمل بالكتابة والترجمة الصحفية