مرشدة
محمد صباح الحواصلي
يسري في عروقي سحر أخاذ لا أعرف له تفسيراً, وتشيع في نفسي غبطة غامضة كلما رأيتها أو سمعت باسمها, ويعصف بقلبي الصغير شوق مبهم إذا غابت عن المدرسة يوماً.
مرشدة على مثل سني, في الثامنة من عمرها, سمراء دقيقة الملامح, ذات عينين سوداوين تظللهما أهداب وطفاء, وشعرها الأملس الطويل كأنه قطعة من الليل يجثو مطمئناً مزهواً على ظهرها الرصين.
ولأن مرشدة, مثلي, شديدة الخجل, قليلة الكلام, فإني لم أحظ بقربها أو محادثتها. وهي لا تلعب في الباحة مع زميلاتها زملائها بل تنتحي ركنها المختار قرب باب صفنا لا تستبدله لوفرة ظله ولبعده عن هياج التلاميذ ولعبهم, وتحرص ألا تسند ظهرها على الحائط كي لا تتسخ صدريتها بآثار الطباشير.
ألعب مع زملائي وأحاول جهدي ألا أبدو خشناً فظاً في لعبي بل أظهر ما يمكنني من اللطف والظرف علني بذلك أترك أثراً جميلا في نفسها. ولا يفوتني أيضا أن أبدو أكثر اللاعبين خفة وذكاء وقدرة على خلق الفكاهة, وعيني شاخصة إليها لا تبرحها, ويالها من نشوة عذبة تلك التي تمتلكني عندما أراها في ركنها تنظر إلينا متابعة لعبنا باهتمام, والابتسامة العذبة لا تفارق وجهها.
أقول لصديقي:
"مرشدة حلوة!"
يبتسم بسذاجة, ولا أتبين لكلامي أي أثر في وجهه.
وأتساءل:
"لماذا لا تلعب مرشدة معنا؟"
"لأنها لا تحب اللعب."
وذات صباح يرق الزمن للهفتي, فتتقدم نحوي صديقة جريئة لمرشدة, تتأود وتميس في دلع وثقة, وتسألني:
"أتلعبون معنا لعبة (الطاء طاء طائية)؟"
وأسألها بلهفة وفضول:
"ومن معنا؟"
"أنا ومرشدة وسمر.."
يخفق قلبي لسماع اسمها ولرغبتها في اللعب معنا, ويستحوذ عليّ شعور لا أستبين منه إلا أنه باعث لغبطة سحرية ملكت عليّ مجامع نفسي, وأجبت دون تردد والفرح باد على وجهي:
"نعم نلعب!"
وأراها تبرح ركنها, وتتقدم منا خجلة بطيئة الخطا, ووجنتاها تتوردان حياء وخفرا. تصبح بقربنا مع زميلاتها, تقف عن كثب منا وادعة كالحمامة, وأتبين في عينيها لهفة لا تعرف لها تصريفاً, أبتسم لها, وتبتسم لي وتسدل أهدابها خجلاً, وأشعر أن قلبي يغرق في نشوة مثلما يغرق عندما تهبط أرجوحة العيد. أنسى من حولي وتغيب عني ضوضاء الباحة, وتهب نسمة حاملة عبق عريشة الياسمين المدلاة فوق مدخل المدرسة, وأسألها:
"أتلعبين معنا؟"
تنطلق ملامحها بالإيجاب, وتكتفي بأن تومئ برأسها.
بيد أن عمر الفرح قصير.
يتناهى إلينا صوت إحدى المدرسات تنادي: مرشدة.. مرشدة..
تخف مرشدة نحوها: نعم آنسة؟
تعالي.. البابا ينتظرك في الخارج.
وأعلم أنها راحلة مع أبيها وأكره أن أصدق أنها لن تلعب معنا.
ويقرع الجرس معلناً عن انتهاء الفرصة وبداية حصة القراءة والإملاء..