معارض من الزمن المتبقي

معارض من الزمن المتبقي

خالد ساحلي

[email protected]

يحب المعارضة حد الموت ، قرر إنشاء حزب سياسي يحمل شعار الحرية و العدل و المساواة ، كان عليه قطع المشوار الكبير في التضحية و يكون مضرب المثل في التفاني و الإخلاص ، وجب عليه تحويل أمانيه من أحلام مجردة و أفكار إلى واقع ملحوظ و محسوس ، يحلو له تسمية الخصوم بباعة الكلام و الجمل ، سماسرة الخطابات في مزاد السياسة ، يبدع في اختلاق العناوين و النعوت ، دائما يكررها ” لا تأكل الشعوب الراقية من الخطب إنما من عرق الجبين و كد الزند ، من بركة البكور ، من تعب الرجال في الحقول تحت الهجير و الزمهرير ” كان دائم التفكير في الشعارات النارية الأكثر اشتعالا لفتيل الغضب الجماهيري ، لكي يؤكد حسن نواياه و يصير ظاهره خبير باطنه راح يتدرب ليصبح معارضا حقيقيا ، إذا حمل الملعقة بيمينه يأكل بها لقيمات بالكاد يحوّلها إلى اليد الشمال ، إذا لبس قميصا جعل أزراره بظهره ثم لا يلبث نزعه ليرتدي آخر ، ذوقه أيضا يتقلب فيعارضه ، إذا نام عن شماله و تذكر في اللاشعور معارضته تقلب عن يمينه ، إذا جلس إليه أحد قام واقفا يتكلم ، بدأ حملته الانتخابية باكرا ، لا يزال عن انطلاقتها سنوات ، كان يجب عليه الالتقاء بجميع الفئات في الشوارع و المقاهي و الأسواق و الحانات والمساجد ، أن يشرح برنامجه السياسي المعتمد على المعارضة لإصلاح قلب النظام ، يطمح الزيادة في نبض الدولة لتركض أكثر فتنتعش أكثر لتتقدم أكثر و تشارك في سباق حضاري مع نظيراتها الغربيات ، كان يعد الناس بسكك حديدية لنقل الخيارات من الحقول إلى الموانئ ، والمطارات لإنعاش سياسة البلد و استقبال الأجانب ، إنشاء الطرقات و المعابر لتقريب الناس من بعضهم البعض ، و السدود لتأمين الحياة و العيش الكريم فاحتمال نشوب الحروب في المستقبل على الماء وارد ، هو أستهجن الماء الذي يباع في الوطن ، كان يقول دائما إن تمكن حزبه من الفوز بالاستحقاقات المقبلة سيحقق وعوده و يضيف إليها وعود أخرى برحلات للفضاء الخارجي ويعمل على تطوير التقنية و التكنولوجيا تأهبا للزوار الفضائيين ، يعد بأن المستورد يصير مصدرا ، كان دائما معارضا حين يصوم الناس يؤجل صومه للغد و يفطر قبل الناس بيوم ، ينام ساعات ليل و ساعات نهار و قد لا ينام الليل و النهار أحيانا كثيرة فقد نام سنينا كثيرة بما فيه الكفاية ، يعرف هو أن الشعوب التي يخاطبها حققت قدرا كافيا من النوم ، و لذا وجب عليه معارضتها ، خالف خلقا كثيرا ، فردتا حذائه واحدة سوداء و الأخرى بيضاء ، سرواله يصل نصف ساقه ، لحيته جهة حليقة و الأخرى وافرة الشعر ، كان مهووسا بالمعارضة و يجب تأكيد ذلك على وجه التحديد في صورته و شخصيته ، فالشعب يؤمن بما يرى و لو كان سحرا ، كلما مشى طريقا أو نهجا ووجد عَلـّمـًا يرفرف وقف دقيقة متحيّا مترحما فيها على الشهداء و الأبطال ، شهداء الخبز كذلك يقرأ عليهم الفاتحة كلما لحق المقابر الكثيرة التي أزداد عددها في السنين الأخيرة ، له يوم في الأسبوع يمشي فيه للخلف مستعينا بالمرآة العاكسة( troviseur) ، يقضي يومه بالكامل تعبا متيقظا حسّاس ، فقد يدفعه النسيان للمشي للأمام و يكسر وعده وعهده الذي قطعه مع الشعب ، لقد عاهد الشعب على المشي للخلف كل يوم في الأسبوع نذرا للمعارضة ، الجرذان الآكلة من حاويات القمامة و الزبالة وعد بتوفير الأكل لها حتى لا تهاجم المارة ، الكلاب الضالة سيتكلف مشروعه بحمايتها من “الحقرة ” و التمييز بينها و بين الكلاب المستوردة ، عاهد بالسهر على حقوقها ، القطط الهزيلة كذلك وعد بطلب المساواة موازاة مع القطط السمينة ، أما الغربان و البوم وعد بإيجاد حلا مناسبا لها لتمكينها من العيش و الاستفادة من حضارة المدينة فتتوازن البيئة كما توازنت الفيلات الفخمة مع الأكواخ القصديرية ، أقسم على الأفراد الضاريين في المجتمع سيجعل منهم مبيد حشرات يقضي به على البعوض و الصراصير المتطفلة السارقة السمع من تحت الأسرّى و الأبواب الخشبية، سيجعلها تلجئ للاختفاء بالكراسي الحديدية ليكون سجنها ونهايتها ، كان يمضي وقته في قاعة الاستقبال التي بها خمسة شاشات عملاقة مع أجهزة فيديو و أشرطة مسجلة عليها أصوات الجماهير المصفقة الهاتفة ، بالريمو كنترول يبث فيها الحياة الواحدة بعد الأخرى ، و ينطلق في الكلام بصوت جهوري ، يلقي خطبه ثم يضغط فتهتف الجماهير ، الأشرطة تحمل هتافات مختلفة لشرائح مختلفة ، مصورة بأماكن متعددة . كان يجب عليه التدرب طويلا ليشعر بالعمل الشاق الذي ينتظره .. هربت زوجته ، أخذت معها الأولاد ، لم تعد تقوى على تحمل جنونه خاصة عندما أحسّت أنه يطفأ الأنوار ليلا و يمشي في الظلمة ، كانت تستهجن سلوكه هذا، حتى صار يفزعها ، كان يهدأ من روعها حين يخبرها أنه يتدرب على الحركة في الظلام لو قدر له و فرضت عليه لعبة الغرفة المظلمة و إغماض العينيين .. كان يصنع عالمه السياسي الخاص به ، يصرف كل وقته في معارضة المألوف حتى أنه حين يقف أمام الناس يرفع إحدى قدميه كلقلق نائم يخاف فك الثعلب .. تجرأ كم من مرة وحطم بمطرقة غليظة رجلا حصان رخامي في ساحة عمومية ، قال يجب على الحصان أن يرفع رجليه.. ألبس الجندي النحاسي لباس الراهب و كسّر له بندقيته بالمكان المسمى عليه اسم قائد روماني، أخذ مرارا للمصحة النفسية و بعد كل شهر يعود لحالته الطبيعة.. تعوّد على أن يطالب بالمعارضة كالمجانين، ويطالب بالمستحيل كالعقلاء، فالمعارضة خلقت أبطالا كما خلقت مغفلين وبالوعات.. تعوّد على أن يعطى الحقن

 و الإبر و المهدئات و المنومات. يتعافى وقتا ثم يزوره المرض مجددا بمجرد سماعه الخطاب السياسي على التلفزيون، يتذكر رؤيا عرافة الصحراء التي أخبرته في المنام بأنه سيصير رئيسا للدولة ذات يوم.