زمن الغياب

زمن الغياب

زهيرة بنيني/الجزائر

 ما أجمل الحياة حين تخرج عن سكتها السوداء المعهودة،و ما أعذب الوجوه حين تغادر أقنعتها المتجهمة الكاذبة،و ما أروع السكوت حين يعترينا الخشوع و يعطينا درسا في الحياة بذهول تتأمل أيامها حائرة  ترحل البسمة من شفاهها و يحل العذاب افترقت خطاها و هامت على وجهها تبحث عن حضن،عن حلم لكنه سراب تلملم شتات حزنها و بين الأرصفة ترمي ألمها و يضيع العنوان ترتمي حائرة تجرفها الآه والآه تقذفها كقذف البرد من السحاب و يسخر منها القدر و تعدمها الأيام على مقصلة الدهر و لا تدري ما الأسباب حتى الناس من حولها يرمونها بسهام اللوم و الحسرة إلا أنها تسافر راحلة و باحثة عن زمن الغياب في يوم تموزي تلبدت سماؤه معلنة عن سقوط أمطار غزيرة تتراقص على نغمات الرياح العاصفة ...لوحة صامتة مجملة بألوان شاحبة باهتة  تحاول أن تستنطق فيها ذاك اللغز الغريب،توالت تلك الوصلات الموسيقية التي وصلت أصداؤها إلى أبعد نقطة و جعلت درجة التصفيقات تختلف من شخص إلى آخر فمرة خافتة ومرة قوية و تارة أخرى متذبذبة فضاء اختلطت فيه الأفكار الحائرة مع الذهن الشارد و التساؤلات المتكررة لم؟و كيف؟و هل؟....بحركة دائرية انسجمت مع قسمات كل الوجوه غشتها الحيرة وشلت الأيدي عن الحركة وكأننا أمام مشاهد مختلفة تتغير وفقا للأمزجة و يرفع الستار لبداية المسرحية المحزنة،تتشابك الأصوات و تختلط التمتمات:تبارك المصور...الله يبعد عنها عين الحسود،الله يتمم لها بخير...  هاهي تنزل على الدرج بخطوات متثاقلة يغطيها ذاك الوشاح الأبيض الذي ترتسم من خلاله معالم الحزن مفارقات هي الحياة بريشتها تخط خطوطا متوازية و أخرى متقاطعة...في تلك الأدراج تفرقت الفتيات الصغيرات تحطنها من كل جهة بأثوابهن البيضاء كأنهن زنابق مائية تحتفلن بعرسهن و احتضانهن لمياه المحيط اللازوردية أو الطبيعة حين تزف عرائس المروج للربيع ...تعانقت البراءة مع الطهارة و انصهرت الروح اليائسة مع سحر هذه البراعم.

 تعالت الزغاريد و توجت مكانها في كرنفال بريء و بين اللحظة و الأخرى ترحل عن عالمها الآني و تودع تلك الابتسامات العريضة التي تواجهها كلما رفعت رأسها باستحياء معبرة عن غبطتها بهذا التتويج إلا أنها تعيشها كأيقونة لتحفة عروس في حين روحها تزداد تعبا كلما قارب التزاوج مع المستقبل ... تغدق عيناها بالدموع و تكتحل أهدابها بالوسن الذي زادها رونقا وجمالا أكثر مما تضفيه مساحيق التجميل . بينما هي في عناق طويل مع الزمن القادم تخترق سمعها أبواق السيارات المنبأة عن قدومهم..... تتراقص أنفاسها بقوة و كأنها تحتضر على تلك الشطحات الصوفية و تتخبط روحها كأنها تعلن عن شهقة الميعاد ...يتقدمن نحوها الواحدة تلو الأخرى و تضاء الشموع و بين الروح و الشمعة نزاع الوداع و بين البقاء والسفر رحلة ضياع ، يخيم السكوت على الجميع  و تدق أجراس الرحيل ..ينزل أول وشاح ثم يليه لحاف غليظ يحجب الرؤية كأنها توشح لتحضر حفلة تهريجية في يوم   إعدامها...تمسكها تلك اليد التي طالما أمدتها ...أوصلتها ...داعبتها... و اليوم تأخذها لبداية عهدة جديدة في الحياة،تتراخى يديها و تسري في جسمها رعشة الخوف و تمشي في ذاك الرواق الطويل طول ألمها و تلك العبرات تنزل و تنقط على وجنتيها كما ينقط الماء على البيوت القديمة و ترسم أخاديد للحزن و أخرى للفرح،أشجان مع ابتسامات تقول بلا صوت و هي تنتحب:

 - لم الجميع يعزف على أوتار قلبي أغنية الأسى؟ لم أقرأ في وجوههم سطور الحيرة و تنبئهم بعودتي رغم ذاك الحجاب العازل بيني و بينهم؟ لم أفسر حركاتهم البهلوانية بنذير شؤم و كأني قارئة الفنجان موهوا لها خطوطها السوداء؟ و أعلن في قرارة نفسي عن رفضي للرحيل و رغبتي في العودة

لازالت تلك اليد تجرها نحو الخارج و تجبرها على الرحيل بطريقة لاشعورية و شعلة الألم تأجج في أحشائها فتحترق بسحر حضورها كالعنقاء لتنتفض من رماد غيابها  معلنة عن فراقها .

و انطلق الموكب و مع انطلاقه يدق قلبها كطبول إفريقية و يتوقف الماضي عن التكرار إلى معايشة لحظات اللاتكرار،  تنتابها هواجس كثيرة:كم أخافتها البداية و كم هي صعبة بداية البداية،تتعالى صرخاتها الذليلة الشاكية عندما أطلت على تلك الشوارع التي تآكلت طرقاتها بمنازله القديمة و عاداته و تقاليده الجديدة، و  تقدمت منها أمواج الحزن ترفعها و تغرقها بذاك الإحساس المفعم بالتلاشي  فتشعر أنها سقطت داخل وردة وحشية قد أنشبت أشواكها في شرايينها لتمتص دماءها... تصل إلى قصرها الوهمي ،يخلع الوشاح الأول ثم الثاني و تظهر للعيان كنجمة سينمائية تألقت في يوم تتويجها... تفاجأ بتلك الوجوه أو بالأحرى بالأقنعة المختلفة ألوانها في هذه السهرة التنكرية:

- ماذا وراء كل قناع؟و ماذا وراء كل ممثل في هذه التراجيديا؟

بين الحيرة و الأخرى و أمام هذه الأرواح الغاضبة الهائمة تبحث عن وجهها عن روحها عن صرخاتها و ضحكتها و عن أسئلتها و فجأة يشهق الصمت بداخلها و يعانقها سرا ذاك اللغز في قطعة الزبدة التي ستصل إلى قمة سقف البيت و الذي يحدد مصيرها إما البقاء و إما الرحيل حسب المفهوم البدائي لعادات مجتمعنا في تكريم العروس.. تتساءل :

- هل سأبلغ الهدف و كم هو صعب أن يصوب الإنسان في نقطة ضبابية و لايعرف أنها ربما المستقبل كله؟

عذبها السقوط...وأدهشتها تلك الطمأنينة بعد تساقط كل الأقنعة التنكرية و في المقابل أحزنتها تلك التنهدات العميقة من الأرواح الطاهرة...

يتساقط الحلم و تتمتم بكلام مفكك لم يفهمه أحد و اكتفت بالأنين لوحدها كطائر جريح ووسط هذا الاحتفال الهمجي وجدت نفسها في كابوس طويل تتلهف لتستيقظ منه ولم تعرف كيف تنتهي الكوابيس و تبدأ الحقائق فوقفت تواجه أكذوبة الزمن ،تواجه موت الحلم  و الغد و انتفاض الوهم و الأمس تتساءل:

- كيف يفرش ذاك البساط الحريري تحت قدميها و فجأة يسرق منها فتسقط كجثة هامدة تتخبط بصمت وسط الشرنقة... تحاول تمزيق خيوطها ...لا تستطيع...يغتال العنفوان...الفرح الغجري و تحرق بنار الخديعة في برد فجري ...  فتكتشف للمرة الأولى كيف يعلق الحلم على مشجب الأيام كجسد فارقته الحياة و كيف نولد من الرعشات لنتحول إلى العدم إلى اللاشيء في زمن الغياب.