أمنية
أمنية
محمد صباح الحواصلي
صاحبي مشغول دائما..
قصدته اليوم أيضا في مكتبه للأمنية نفسها. كان مشغولا بين جمع من رجال ملأوا المكان, أعينهم تجوس الوجوه بترقب متحينة فرصة ما مرضية. أحاول أن أمسك بعيني صاحبي اللتين كانتا بدورهما تجوسان الوجوه بمقامرة وحذر.
التفت خلفي لأرى حاجبه العجوز, الحاج بدر. ابتسمت له, فابتسم خجلا من زياراتي المتكررة دون أن أتمكن من الانفراد بصاحبي وقال لي:
- "في شيء مهم تحب أن أقوله للمعلم؟"
- "لا.. شكرا يا حاج. سآتي مرة أخرى."
- "تشرب زهورات يا أستاذ؟"
- "لا.. شكرا. قل لسامح سيعود طلال اليوم بعد الظهر"
*
* *أذكر أن الطريق كان يصعد بنا إلى أعلى, مثل النشوة التي لا تسكن إلا الذرى العالية. بعد قليل, عند المنعطف, سيكون بإمكاننا أن نرى (دير السيدة) متربعا قمة التل. حدثني سامح عن الصخرة المسحورة خلف الدير:
- "كل من يطأ هذه الصخرة تبتلعه الأرض.. إنها لعنة السماء"
- "أتصدق هذا الكلام يا سامح؟"
صرخ بيقين العواجيز:
- "طبعا أصدقه.. إنه حقيقة."
ثم باغتني بسخريته المحببة دائما إلى نفسي:
- "والله لقد أفسدتك الكتب.. أعانك الله على آخرتك"
قلت له وأنا أنقر بإصبعي على صدغه:
- "الخرافة أفيون الشعوب"
قال بثقة:
- "لماذا لا تحسم الأمر وتجرب بنفسك وتقف فوق الصخرة؟"
طبعا لم أجرب وإن كنت غير مصدق هذه الحكاية. كان يسره الحديث عن الأشياء التي لا تصدق, عن الخوارق, والثعابين النشابة التي تلتهم العصافير وهي تطير. أما أنا فقد أسرتني نكهة القرى والدروب التي تتفلت نهاياتها من ناظري لتغيب, هناك, في مراتع البهجة حيث البراري الشاسعة وكروم العنب الأبيض والأفق البعيد الذي يخفي في غياباته الخوف والدهشة وعواء الذئاب.
* * *
عدت إلى مكتبه بعد الظهر. كان هناك لفيف من رجال متميزون مثل سياراتهم التي تركن باستعلاء فوق الأرصفة. لوحت له من خلف الزجاج بأنني سآتي في يوم آخر. أشار إليَّ أن أتريث. جلست ورحت أقرأ في ديوان شعر كان بصحبتي. غيبني الشعر عما حولي لدقائق, ولكن سرعان ما نسلت عيني عن سطوره وعدت بهما إلى سامح الذي كان يقضم عروق الملح من حواف أظافره وعيناه تصغيان باهتمام إلى رجل بدين له شاربان ثخينان ويرتدي سترة (فلد). خرجت من المكتب وتابعت سيري على الرصيف. لحقني صوته:
- "طلال"
- التفت لأجده خلفي. قلت له:
- "أنت دائما مشغول"
- "معليش يا طلال. لو تدري من يكون هذا الرجل"
- "لا يهمني من يكون. الذي يهمني هو أنت"
قال, وقد بدا أنه غير راغب أن يطيل الحديث معي ويعود إلى ذاك الرجل الذي لا يهمني من يكون:
- "والله أحب أن أجلس معك.. قلْ لي في شيء؟ هل تريد شيئا؟"
- "لا أريد شيئا.. كل ما أريد هو أن نجلس وحدنا ونحكي. سأفضي إليك بأمنية"
- "أفضل شيء أن أزورك في البيت. ما رأيك هذا المساء الساعة الثامنة؟"
- "أهلا وسهلا"
* * *
لو تدري يا صاحبي كم أعشق أمسنا البعيد. كنا أيامها في مستهل الصبا. خبزنا الفرح, ومرا تعنا كبرياء الفلاة. كنا مثل مهرين نجوب البراري وشعاب الجبال. ملاذنا دائما التخوم البعيدة التي تشرف على القرى التي تطوي في صمتها رهبة المجهول ولذة الاكتشاف. من هناك, كنا عندما نلتفت إلى خلفنا نجد صيدنايا مثل حبة القمح تلمع تحت الشمس الذهبية.
- "ياه.. لقد ابتعدنا كثيرا يا سامح. لن نصل إلا بعد الغروب"
- "لا يهمك." قلتَ لي وكنتُ أعرف أنك خائفٌ مثلي بأن نصل البلدة بعد المغيب. ولكن الرائع أنك كنت تحاول أن تتقمص شجاعة شبان القرى الذين كانوا يعودون من الصيد بعد العشاء. إلا أنك كنت توصلني بشجاعتك المزعومة إلى قلب البلدة وقد تسربلت منازلها الحجرية بسكينة العتمة ونباح كلاب بعيدة.
أعشق القرى يا صاحبي. لقد عببت من فطرتها مؤونة حسبت أنها كافية للعمر كله.
هو ذا صباح آخر في صيدنايا. هنا, لا يمكن أن تستيقظ إلا باكرا بُعيد صياح الديكة, وقد شبعت عيناك من النوم لتستقبل عافية الصباح.
- "تعو أكسروا الصفرة." تنادي أمك بلكنتها الصيدياوية.
في الفناء الفسيح وسط الدار تضع لنا صينية الألمنيوم المستديرة, وعليها اللبنة والزيتون الأخضر والمعطون مع عروق النعناع والقريشة والدبس والبيض المقلي بالسمن البلدي, ثم تأتينا بالشاي والخبز التنوري. صوت تكسره ما يزال ملء كياني.
- "سلمت يداك يا خالة." أقول لها من أعماق قلبي.
- "بالهناء والشفاء.. ما تخليك عنا شي كم يوم"
- "يا ليت يا خالة. المدرسة ستفتح السبت القادم ويجب أن أحضر دروسي"
تنظر إلى ابنها سامح وتقول لي:
- "كيفو بالمدرسة؟ والله شايفه مونفعان."
أقول لها وأنا أغالب ابتسامة:
- "لا يا خالة, سامح جيد.."
- "يا خوفي عليه مو نافع لا للخل ولا للخردل. مالي عارفه شو حيطلع بكره."
* * *
انتظرت حتى الثامنة.. الثامنة والنصف. التاسعة. سامح صاحب الدرب الذي يصعد إلى أعلى ليعانق ذؤابات الأحلام لم يأت. وقفت خلف النافذة وسرحت قليلا في سكينة الليل الجاثم فوق صدر دمشق المثقلة بالهواء الفاسد. المصابيح باهتة مثل كل شيء يشرف على نهايته. نبهني ضوء متحرك ظل يشتد حتى توقفت سيارة فارهة ذهبية اللون تحت نافذتي. كنت قد أفقت من سرحاني عندما وجدت صاحبي يخرج منها.
- "آسف لتأخري, كان عندي عشاء في الشيراتون."
وعلى عجل دخل. جلس في صدر الصالون. أشعل سيجارا ووضع ساقا فوق ساق وقال:
- "لقد شغلتني.. في شيء؟ هل تريد شيئا؟ تريد مصاري؟"
هززت رأسي مستنكرا:
- "لا.. لا.. لا.. لا تفهمني غلط. أنا لا أريد إلا أن أراك وأفضي إليك بأمنية."
قال فيما هو يقلب كتابا, ثم يلقيه بإهمال على الطاولة:
- "أمن أجل أن تقول لي هذا الكلام استدعيتني!! والله فاضي وعيشك راضي."
- "أنت صاحبي وأحب أن نعيد معا أروع الأيام بهجة وبراءة."
- "أية أيام يا شيخ؟"
- "أيام زمان.. أيام الفطرة والبراءة. تعال نذهب بضعة أيام إلى صيدنايا.. إلى الكروم وتخوم البلدة الموصولة بروعة المجهول. كم كانت جميلة أيامنا البعيدة يا سامح."
رأيته ينظر إلى بإشفاق, ثم يقول بدهشة واضحة:
- "يخرب بيت الكتب وساعتها لقد أكلت عقلك. نحن يا أستاذ في زمن لا يرحم ولا وقت لمثل كلامك الفارغ. الفرصة تكره المشاوير والهواء النظيف وكلماتك البلهاء."
ضحكت وقلت له:
- "لكنك نهلت من الفرص ما يكفيك لمئة سنة.. ألم تشبع؟"
- "وأنت ألم تشبع من الكتب والشعر؟"
كنت على وشك أن أقول له إن هذا لا يمنع من أن نقضي بضعة أيام في البلدة الحالمة عندما باغتني قائلا:
- "ثم أية كروم وتخوم وأيام جميلة تحكي عنها! لم يبق من ذلك شيئا. لقد التهم الإسمنت والحجر كل هذه الخيالات, ولم يبق إلا ذكريات في رأسك وحدك. لو ذهبت إلى صيدنايا الآن لن تعرفها.. لقد أصبحت حاضرة."
عجبا كيف لم أنتبه لهذا كله! من الحمق أن يفوتني أن أكثر الأشياء جمالا وبراءة لا تقوى على الصمود في عالم يجيد تدمير نفسه. باغتتني رغبة في الصمت, وقد تقزم كل شيء من حولي. حاولت أن أحمي أمنيتي التي كانت تذبل أمامي, ولكن الكلمات لم تسعفني.
ويفضُّ صوت صاحبي غشاء الصمت:
"هات القهوة.. هات..."