رجل في الذاكرة
رجل في الذاكرة
بيانكا ماضية
حين أرادت أن ترى شمس المدينة بعد أيام ممطرة بالنبوءات، حملت حقيبتها وتأهبت في فضول لا متناه؛ لرؤية اخضرار الأماكن ونهوضها في شوارع المدينة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من أنظارها...
خرجت من باب الفندق الذي استقبلها في الأمس، متوقفة للحظات متسائلة في قرارة نفسها أي اتجاه تسلك... ومشت من دون أن تحدد هدفاً لخطواتها؛ لأنها لم تكن تدرك بعد أين يختبئ الجمال في هذه المدينة... ولكي تتلمس طريق العودة رأت أن تبقى على مقربة من الأبنية المحيطة بالفندق الذي أفرغت فيه ذاكرتها، واستعدت لتخزينها بصور تجمع فيها بهجة الأماكن، وحبور النهارات المتطلعة إلى فضاءات لا تحتمل التأجيل...
كانت تمشي ببطء شديد... تجذب أنظارَها واجهاتُ المحال ومقاهي الرصيف التي نثرت كراسيها أمام الملأ؛ لترحب بكل زائر يبتغي أن يمضي وقتاً جميلاً تحت سماء لم تعرف يومذاك سيلاً من التجهم والغضب.
وعلى مشارف طرقات أربع، وقفت تسائل نفسها عن مآل سيرها إن هي خطت لتجتاز الشارع... تلفتت حواليها لترسم في ذاكرتها صورة الأبنية وأسماء المقاهي وأشكال المحال؛ لتستطيع في حال تلاشي ذاكرتها بين أشجار العشق وهمسات العصافير وانبثاق الشمس من بين أغصان الحياة، أن تعود إلى النقطة التي بدأت منها مشوارها، تدلها عليها الصور التي أبقتها في الذاكرة... لكنها فضّلت فيما بعد أن تواصل قدماها السير على الرصيف المحيط بالفندق؛ لئلا تخرج عن مسار الأحلام التي نثرتها وراءها...
منطلقة هي إلى حيث يجذبها شيء تقف أمامه طويلاً لتتأمله، إلا أن كل شيء في هذه المدينة كان مثار وقوف وتأمل، ولئلا يظن بها أنها غريبة كانت تمرر نظراتها بسرعة على كل ما تقع عليه عيناها، وتمشي غير آبهة لهذا الجمال الذي فرش لها أجنحته ليحلّق بها بعيداً بعيداً... بيد أنها كانت تسرق النظرات وتخبئها في ذاكرتها؛ لئلا تضيع منها في غفلة من ازدحام هذه المدينة.
كانت تمشي وترى وجوهاً مختلفة، بعضها توغل في الفرح، والبعض الآخر اضمحل وراء الحزن، وآخر غاب عن الدنيا ليبلغ حد الجنون، وكانت المقاعد الخشبية التي استمرأت رسوخها على جانبي الشوارع محطات لأزمنة غير متباعدة...
لكمْ كانت صور المقاعد حكايات ترحل بها إلى أروقة الماضي... وودّتْ لو تجلس فوق أحدها قليلاً لتستعيد أنفاس ذاك الزمن... لكنها كانت وحيدة... وهي لاتنتظر أحداً... ومضت تجمع قدراً كبيراً من عناوين لمحطاتها؛ كي تبقى شاهدة على أوراق حلم لمّا ينتهِ.
سارت على الدروب تقفز أمامها عصافير القلب، فلكمْ حلمت بزيارة هذه المدينة، بعد أن أيقنت أنها على موعد معها شاءت أم أبت!
لم يبق في تلك الدروب خطواتٌ، فقد رسمتها جميعها على الأرصفة وهي تروح وتغدو؛ لتغبًّ حتى الامتلاء من أناشيد النوافذ التي تتباهى بأناقتها، ومن امتداد الأحياء التي تناثرت على جوانبها أزاهير الحياة...
- يا الله كم يشبه هذا الحيُّ حيّاً في مدينتنا القديمة، لكن الناس هنا مختلفون في كل شيء.
ورأت بعد أن أتعبها المسير أن تجلس قليلاً على أحد المقاعد المقابلة لهذا الحي، كي تمعن في جماله وفي حركات الناس الذين يغدون فيه ويروحون وفي استمتاع بعضهم بأشعة الشمس الذهبية التي ألقت بظلالها اليوم على المدينة...
وفي لمحة من حدس، اهتزت مشاعرها، وأحسّت أن شخصاً في مكان ما قد أربكه تأخرها...
- وما شأني!... وماشأنُه إن تأخرتُ ثلاث أو أربع ساعات... لستُ على موعد مع أحد... وإن كان أحد يبتغي لقائي فلينتظر... حسناً فلينتظر...
وبعد رحلة قصيرة بين الأشجار والمقاعد والأزقة، وبين واجهات المحال الكبيرة المعلنة عن تفاصيل جسد هذه المدينة، وعبر أجزاء من الزمن امتدت ديمومتها في روحها، رأت أن تعود أدراجها إلى الفندق، بعد أن عبّأت أنفاسها بعبق نهار يستحيل على النسيان، واستمتعت بألوان هذا الصباح الذي شرّع نوافذه على صباحات أُخر.
لم تنسَ طريق العودة، لقد رسمت تفاصيلها بدقة، وهاهي آثار الأحلام مرسومة أمام أقدامها...
وما إن وصلت الفندق حتى لمحت في عيون رفاقها قلقاً على تأخرها ؛ لظنهم أنها تاهت في الشوارع التي لا تعرف سبلها، وهي غريبة عن المدينة، لكن فرحها المرسوم على جبينها، وفراشات الحلم التي تتطاير في عينيها، جعلتهم يطمئنون ويستردّون ابتساماتهم التي غابت عن وجوههم بعضاً من الوقت.
كانوا جالسين في بهو الفندق ينشرون أحاديث جلبوها معهم من مدينتهم، فتقدمت منهم... لمحت رجلاً جالساً بالقرب منهم يشاركهم بعضاً من أحاديث الذكريات، هو ليس منهم... ولكنه يحمل ملامح مدينتهم...
كان الرجل يتصفح عناوين جريدة كانت بيده... وما إن مرّتْ أمامه لتجلس إلى جوار رفاقها حتى اشتم عبير سحرها، فطوى الجريدة وراح يتملّى وجهها... نظرت إليه... أمعنت النظر... إنه هو... ذاك الرجل الذي رأته منذ سويعات يخطو نحوها بتؤدة وهي جالسة على أحد المقاعد التي فرشتها المدينة في شوارعها... كان آتياً من البعيد، يحمل بيده حقيبة سوداء، يمشي بتؤدة تلفت الأنظار، وقد راحت تتأمله وهو يخطو بخطوات وئيدة... بدت ملامحه تتضح مع كل خطوة من خطواته... طويل... نحيف... في مشيته رزانة ووقار... لا تلفت أنظارَه أية حركة في الشارع... يقترب منها شيئاً فشيئاً ... وجهه يشبه وجهاً لطالما رسمته في مخيلتها... وجهاً ينبئ عن إشراقة شمس من بين غيوم دكناء... عيناه تجعلان المرء يغوص فيهما ليقبض على لآلئهما... تشفان عن الآفاق البعيدة في ذهنه... كأنما يفكر في أمر ما يشغله منذ سنين... يقترب أكثر... تلتقي عيناه بعينيها... لم يبق غير خطوات من المقعد الذي تجلس عليه... توجست... ظنت أنه سيسألها عن أمر ما....وما إن اقترب أكثر حتى ابتسم ابتسامة رقيقة جداً هزتها، وشعرت في تلك اللحظة بشعور جميل يتسلل إلى أعماقها... انكمشت على نفسها، وأشاحت بنظرها عن عينيه... وراح الرجل يكمل سيره...
- يا إلهي من هذا الرجل، كأنه قفز من ذاكرتي ليلقاني في هذا المكان... نظرت في عينيه، فوجّه إليها سهام نظرة وشت أنه قد أتى إلى هنا لينتظرها، فلم تجد بداً من أن تحدثهم عن الأشياء التي جلبتها من محال المدينة، وكأنها تجيب على سؤال قد وجهه لها في سرّه عن سبب تأخرها كل هذه العصور...
- تُرى هل هي مصادفة أن نلتقي هنا مرة أخرى؟... هل حقاً كان ينتظرني... أم خلتُ أنا ذلك؟ ولكن من يكونُ هذا الرجل؟!.
* * *
بدأ حديث طويل بينهم وتناول موضوعات شتى، من بينها موضوع يخص الأدب، وانشغال الكتّاب والأدباء في إبداعاتهم الأدبية والثقافية بتفاصيل الحياة السياسية التي تدور رحاها في العالمين العربي والغربي... وكان كلما أدلى الرجل برأي في مسألة ما مستفيضاً في الحديث عن وجوهها وأسبابها والنتائج التي يمكن أن تفضي إليها... ازداد إعجابها بثقافته الواسعة وبذاكرته الوقّادة وبذهنه المتفتّح...
وبينما انحسر الحديث بينها وبينه، إذ راح بعض الرفاق ينسحب الواحد تلو الآخر، لأخذ قسط من الراحة... والبعض الآخر ليستطلع أمكنة هذه المدينة... لم يجدا نفسيهما إلا وقد انفض الرفاق جميعهم من حولهم... وانتهزها الرجل فرصة ليسألها عن أصولها، وعن عملها.. عن درجة ثقافتها واهتماماتها الأخرى... فلم تجد نفسها إلا وتجيب عن أسئلته كلها وكأنها في محضر تحقيق...
ووجدتها فرصة هي الأخرى لتسأله عن كل مايخص شخصيته، فأعلمها بأنه روائي... وأنه يستعد حالياً لكتابة رواية جديدة...
كانت الشمس قد بدأت تغوص رويداً رويداً وراء الأفق، ليعلن المساء طقوسه الجديدة في المدينة... وكان في مفكرة الرفاق حضور حفلة موسيقية لتجمع شباب هذه المدينة إحياء لذكرى الموسيقا العالمية... وقد دعي ذاك الرجل من قبل الرفاق لحضور هذه الحفلة، فأعلمها بأنه سيرافقهم لحضورها...
لم يأت الرفاق الذين ذهبوا إلى غرفهم للراحة إذ فضلوا المكوث فيها؛ لإجراء بعض الاتصالات مع الأهل في بلدهم... وفيما هما يتحادثان... اتصل بالروائي أحد أصدقائه الذين ذهبوا لاستطلاع الأمكنة؛ ليعلمه أنه بانتظارهما على ناصية الشارع المقابل للفندق للذهاب إلى الحفلة الموسيقية، إذ سبقه الآخرون لحجز الأماكن...
أعلمها بذلك وخرجا من الفندق يسيران جنباً إلى جنب... كانت علائم السرور جلية على محياه... أما في فضاء عينيها فكانت تسبح طيور المساء...
راحت تسأله عن جمال هذه المدينة فعلم أنها لم ترَ بعد كل تفاصيلها، أما عند الناصية فراح يتأمل من ينتظرهما هذا الفرح الذي يقفز أمامهما، وما إن وصلا إليه حتى بادر بسؤال وجهه إلى صديقه الروائي:
- أكلما وقعت عيناك على امرأة جميلة رحت تغازلها؟؟
فنظرت إليه لترى علامات وجهه إثر ذاك السؤال... لكنه ابتسم ابتسامة صغيرة ولم يعلق بأية كلمة...
سار الثلاثة حتى وصلوا إلى مكان الحفلة الموسيقية... فدخلوا الصالة وجلسوا بقرب أصدقائهم الآخرين... اتخذ الروائي مكاناً بقربها، وكانت الآلات قد بدأت للتو بنشر موسيقاها في الأرجاء... سألها:
- هل تعرفين لمن هذه المعزوفة؟ أجابته:
- لموزارت
- لاشك أنك تعرفين اسمها!
- نعم... زواج فيغارو
وتابعت الفرقة معزوفاتها المتنوعة، وهما منتشيان بما يسمعانه... بعد قليل مال إليها ليسألها عن رقم هاتفها الجوال وعن بريدها الإلكتروني؛ ليستطيع أن يتواصل معها حين عودتها إلى بلدها... فتسربت رائحة جسده إلى أنفاسها، وشعرت بانجذاب قوي نحوه لم تشعر به تجاه أحد سواه... كبتت شعورها، وأعطته رقمها الذي قام بحفظه في جهاز هاتفه على الفور... ثم راح يفتح حقيبته ليخرج منها ورقة تكتب له فيها عنوان بريدها الإلكتروني، وما إن فتح الحقيبة حتى رأت أوراقاً مصنفة حسب تسلسل معين... مرتبة ترتيباً دقيقاً ... فأدركت أن حياة هذا الرجل منظمة ومرتبة بشكل جيد وأنيق...
تبادلا عناوين بريديهما الإلكترونيين... وتابعا سماع المعزوفات الموسيقية...
جالسة هي بقربه.. يكاد يتلاصق كتفاهما... حينذاك شعرت برغبة قوية في أن يتأبط ذراعها... لم تكن تدرك مدى هذه القوة التي جعلتها تشعر بإحساس غريب كهذا...
وفيما هما يتابعان المعزوفات... همس في أذنها:
أشعر تجاهكِ بمشاعر لا أستطيع تحديدها بالضبط!
احمر وجهها وشعرت بنار تشتعل في وجنتيها... أجابته:
- ولماذا لا تستطيع تحديدها؟
أجابها: لأنكِ أنتِ التي بمقدورك تحديد هويتها
نظرت إليه وابتسمت، وساد صمت عميق بين الاثنين... بينما علت الموسيقا بروحيهما حتى كادت أن تنطلق بهما بعيداً خارج هذا الزمان...
لغة الصمت فتحت لهما أبواباً من الخيال، من الذاكرة، من أحاسيس كانت شعراً للحظات قليلة، فتنامى الحلم باعثاً تأثيراً عميقاً في نفسيهما الحائرتين، هدف يبحث عن هدف، عن طريق لا تحده الحدود ولا تتاخمه اللغات.
انتهت الحفلة وخرج الجميع مسرورين لما سمعوه من معزوفات جعلتهم في عالم آخر يعيشونه لدقائق... عالم امتزج فيه الواقع بالخيال... الخيال الذي حلّقت فيه أرواحهم إلى فضاء فيه كل شيء خالد...
وبينما هم سائرون في الدرب التي تودي إلى الفندق... تراجعت خطواتهما قليلاً عن الرفاق... ولم يجدا نفسيهما إلا أمام حديقة تناثر العشاق فيها كالأزهار... وسارت بهما أقدامهما إلى مقعد خشبي تحيطه أشجار الورد فعبقت أنفاسهما برائحته... قال لها:
- كنتُ أعلم أنك ستأتين إلى هذه المدينة!
فأجابته:
- كيف علمت؟
- منذ زمن بعيد وأنا أحلم بمرآك.... كنتِ ( كارمن ) التي رسمتها في خيالي؟
أعجبها التشبيه... ولكنها انتفضت إذ تذكرت قصة كارمن، قالت:
- ولكن كارمن غجرية!
- أنسيتِ أن للإسبان ملامحنا؟
- ولكنها كانت فتاة لعوباً!
- وكانت أيضاً رائعة الجمال، فاتنة! سحرت جوزيه حتى جعلته يحبها!
وراحت تسترجع في ذاكرتها ألحان أوبرا كارمن المتأثرة بالموسيقا الشرقية وبروحها... وانتقلت بخيالها إلى أحد المسارح في مدينتها حين عزفت أوركسترا كارمن ألحانها، ورافقت العزف رقصة الفلامنكو التي أدتها راقصة إسبانية موهوبة جسدت دور كارمن... وتذكرت نهايتها المأساوية على يد جوزيه... قالت له:
- ولكن كارمن ماتت بطعنة من حبيبها جوزيه... هل كنتَ ترى في نفسك جوزيه؟
أجابها :
- كنتُ جوزيه حين كنتِ ترقصين في أحلامي!
ابتسمت وشعرت بشيء من الغرور يتسرب إلى خلاياها... قالت:
- لا تقل لي إنك علمتَ أيضاً أنك ستراني اليوم؟
- نعم... فمنذ الصباح وأنا أعيش حالة فرح لا حدود لها، لم أدرك سببها ولكنني كنت أعيشها لحظة بلحظة، وقادتني قدماي إلى ذاك الفندق!
- لا أبالغ إن قلتُ لكَ إنكَ أنتَ من رسمتُ تفاصيل روحه في ذاكرتي!
- وأنتِ من كان خيالها يرفرف في مخيلتي!
- لا شك أن السماء هي التي حملتني فوق غيومها لأصل إليك... وماكنتُ أعلم أنكَ بعيد كل هذه المسافات... حين دعاني الرفاق لأكون معهم في هذه الرحلة شعرتُ بأن نافذة جديدة سأطل من خلالها على عالم يحيا بداخلي!
- لماذا تأخرتِ كل هذه السنين؟
أجابته بدلال:
- لماذا لم تخبرني أنكَ هنا... كنتُ أبحثُ عنك في كل الوجوه... وحين رأيتُ وجهك عرفتُ أنكَ أنت... ماذا كنتَ تفعل كل هذه المدة؟
- كنتُ أكوّن ذاتي لكِ... أملؤها بما تحبينه... أصقلها لتكونَ كما تريدين... أشذبها لتكون نقية مثلكِ!
وسرت نسمة مسائية جعلتها تشعر ببعض من البرودة... فخلع عن جسده معطفه وألقاه برفق على كتفيها... شعرت وكأنه يلبسها روحه... غاصت في المعطف حتى سرى الدفء في كل أوصالها...
- هل تعلمين أنك جميلة بمعطفي؟
- وأنتَ جميل مذ أن رسمتُكَ!
- كيف كانت ملامحي في ذاكرتكِ؟
- كما أنت!
- ولكنكِ لاتعرفينني جيداً!
- بلى... أعرفك جيداً... وأعرف أن هذا الكلام سيدور بيننا ذات يوم... وأعرف أخلاقك وسجاياك وكيف تتصرف في كل المواقف!
- ماهذه القدرة التي تمتلكينها... ياإلهي كم أنتِ قوية؟
- ليست قوة وإنما هو إحساس عميق بالأشياء... حدس ينبئني بأعظم الأمور!
- وهل أنبأكِ حدسك بأنكِ ستجدينني هنا؟
- أحسستُ بأن شيئاً عظيماً ستقبض عليه روحي هنا في هذه المدينة... وكنتَ أنت!
- إنك تبالغين قليلاً!
- لا... لا أبالغ... أحدثكَ بكل صراحة عما في نفسي!
كان المكان مناسباً للبقاء لا الرحيل... للإبحار في عالم لم يشعرا أنهما غريبان عنه، كأنهما كانا يعدان نفسيهما منذ زمن لولوجه... سألته:
- ما اسم هذه الحديقة؟ أجابها:
- حديقة العشاق...
ضحكت وقالت:
- وماعلاقتنا نحن بها؟ قال:
- هي لنا نحن الاثنان... ألم تشعري فيها بالراحة والفرح؟ قالت:
- أشعر فيها بالفرح لأنكَ بقربي.
وتسللت يده إلى يدها، فأمسكها وقبّلها، نظرت في عينيه وقالت:
- الآن أشعر أنني كارمن...
- هل تدرين أنني لا أقع فريسة للحب بهذه السهولة؟
- حين يقرع الحب باب قلبك، ليس بإمكانك الهروب منه، فهو ليس بالأمر السيء، إنه يحمل لك كل تواشيح الحياة وكل غلالاتها، تشعر وكأنك في كون خارج هذا الكون، كون هيئ للذين يدخلونه ؛ ليكونوا أرواحاً تطير وتحلّق... أفلا تشعر بهذا الآن؟
- لقد أتيتني وأنا على أهبة الاستعداد لاستقبالك؛ لأرى تفاصيل هذا العالم... وها أنا، وأنتِ معي، يلفني الجمال من كل الجهات، ويسحرني البهاء بإطلالته... لماذا تأخرتِ كل هذه الدهور... حتى ظننتُ أنك لن تأتي؟
- حين شعرتُ بوجودكَ طرتُ إليك على جناح الغيوم لأكونَ معك!
- ستكونين معي دائماً...
* * *
بعد يومين من التنزه في فضاءات المدينة وفي أمكنة كان الجمال مرسوماً بدقة في زواياها، حان موعد السفر... رتبتْ حقائبها، لتستعد للرحيل مع الرفاق...
كان الروائي جالساً في بهو الفندق ينتظر طلتها الأخيرة قبل الوداع... وما إن أسفر المكان عن وجهها، حتى اغرورقت عيناه بالدموع... نظرت في عينيه وألم الفراق يفتت قلبها... قال لها:
- كيف تتركينني وحيداً في هذه المدينة؟
- لستَ وحيداً، قلبي لايزال معك... ويود ألا يفارقك أبداً... وحدها الأقدار تفعل بالقلوب ماتشاء!
وشعرت بحشرجة في حلقها... لم تستطع بعدها الكلام... قال لها:
- سأنتظركِ إلى أن تأتي مرة أخرى...
- انتظرني فأنا قادمة إليك...
استقل الجميع سيارة أجرة لتقلهم إلى المطار... في الطريق أمسك بيدها ضاغطاً عليها بشدة، ولم يدعها إلى أن وصلوا إلى المطار... كان بقربها كل الوقت، إلى أن حان موعد إقلاع الطائرة... ظل ينظر إليها... وهي تنظر إليه من بين المسافرين المحتشدين أمامها وخلفها، في عيني كل واحد منهما شوق وحنين ورغبة في البقاء.... إلى أن غابت عن ناظريه...
في الطائرة جلست في مقعدها المخصص لها بالقرب من النافذة... وقبل أن تقلع الطائرة، أخرجت هاتفها المحمول من حقيبتها... وراحت تكتب نص رسالة هي: بعد قليل ستقلع الطائرة بي... لقد أودعت قلبي لديك... كانت جميلة ورائعة تلك الأيام التي قضيتها معك...
فأتاها الجواب : كنتِ أنتِ أروع من الأيام... وستبقين في خلدي حتى ألقاكِ...
بدأت الطائرة بالسير... أسرعت قليلاً... أسرعت أكثر... وكانت دقات قلبها لا تتوقف عن الازدياد.... هاهي الطائرة ترتفع قليلاً عن الأرض... وها هي روحها تنجذب نحو الأسفل، تتجه الطائرة بمقدمتها نحو الأعلى... بينما عيناها لا تفارقان أجزاء المدينة التي أصبحت تحت ناظريها...
أخرجت قلماً وورقة بيضاء من حقيبتها وراحت تكتب:
( حين رأيت أجواء المدينة – وأنا أطل عليها من نافذة الطائرة – لم أكن أعرف أنني كنت على موعد مع القدر، ولم أكن أعرف أنه، حين سأغادرها مكرهة، سيطير قلبي إلى حيث حطت أمامي حمامة أحلامي التي سحرني هديلها وظلت ترمقني إلى أن تقدمت نحوها فحملتها بيدي لتتكور في كفي تنقر أخاديدها.
حين رأيت هذه المدينة، كانت الغيوم لما تشح بوجهها عن سمائها بعد، ثم بدأت تنقشع رويداً رويداً لتجعلني أرى بدهشة هذا الجمال المتعدد الألوان.
كانت المدينة صغيرة لا تكاد العينان تبصرانها، ولكنني رأيتها فيما بعد وكانت كبيرة كبر سعادتي التي تلقفتْها أنفاسي في حضرة من كان معي في شوارعها.
من نافذة الطائرة التي رأيتُ من خلالها ما لم أره في حياتي، كان موعدي مع القدر، وكان القدر يسبقني إلى أمكنة نثرت أوراق حبي في كل زواياها.
لم أشأ في العودة بعد أن فارقتُ عينين كانتا سكني، أن أتحدث إلى الرفاق، وددت أن أستبدل نوافذ حديثهم بنافذة كانت بقربي كي أتأمل جيداً من مكان صغير كبر هذا العالم ووسع القلب الذي احتواني فيه...
وشعرت أنني أودع وطناً تركت فيه حلماً كنت أبحث عنه في هذا الكون، تركت فيه أشيائي وأموري الصغيرة، تركتها من دون أن أعرف زمناً لموعد آخر مع القدر، حتى كاد قلبي ينفطر من لهفة الحنين إلى ذاك الحلم.
لبلدي في قلبي مكان كبير، هي وطني الذي أحمل له انتمائي، ولم أكن أعرف أنه سيكون لي وطن آخر ستتجذر روحي لا في أرضه، وإنما في روح من سكن إحدى زواياه.
ما أعظمه من شعور يجعلك تؤجل اشتياقك إلى وطنك، وما أسماه من شعور يجعلك ترى العالم كله في عيني امرئ...
الآن أنا في مقعدي في الطائرة، وكلما نظرت إلى أرض احتوتني أياماً قلائل برقت في ذهني صورة من طاف بي في تلك الأرض التي رأيت جمالها في عينيه، وكأنني أطوف العالم كله.
الآن أنا في مقعدي في الطائرة، أخفي وجهي المليء بالدموع على فراق من كان حمام المدينة الذي حط على قلبي ليفرش حنانه، حنانه الذي ماكدت أتلمس تفاصيله حتى باغتني زمن الرحيل.
إلهي ألهذا عبّدت لي الطريق إلى تلك المدينة الخيالية لتجعل قلبي أسير قلب أحد ساكنيها؟
لم أزل – وأنا في الساعة الأولى من الرحيل – أعيش حلم العودة الذي تكاثرت صوره في مخيلتي، وما من قلب يخفق بي في هذا الفضاء، إنني تركته ينبض بين أضلاع من كان نورساً هامَ على شواطئي فهاجت أحاسيسي على أشجان صوته ).
بعد أن أرهقها البكاء أسندت رأسها إلى نافذة الطائرة، وما بين ثواني الحلم واليقظة رأته يتوسد غيمة بقربها... يمعن النظر إلى وجهها ويتأمل بريق الدموع التي اغرورقت في عينيها... يمد لها كفاً من حنان واشتياق ولهفة... وغطت في نوم عميق لتستيقظ على بقايا حلم ما زالت روحها تتشوق إلى رؤية كل أمكنته لتذوب فيها حتى الانصهار.