حدَثَ في ...تلك البلدة البائسة !
حدَثَ في ...تلك البلدة البائسة !
ابتهال
قدور
[email protected]
كاتبة سوريه مقيمة في
الكويت
"لست في أفضل حالاتي".. رددها الأستاذ صالح بينه وبين نفسه، وهو يركب سيارته في
هذا الصباح الحزيراني الدافيء، متجها الى الثانوية الوحيدة في البلدة .. فتح
الشباك عن يساره تحت الحاح الحاجة الى نسمة صباحية منعشة...بينما راحت السيارة تشق
طريقها مروراً ببعض الشوارع الضيقة..
كانت عيناه تحتضنان كل مايقع أمامها.. كما يحتضن عاشق مأسور كل تفاصيل محبوبته،
فتلك التفاصيل، وإن بدت تافهة، إلا أن اجتماعها قادر على أن يمنحها تفرداً
وخصوصية..
اليوم استأثرت تلك المساحات الخضراء على جانبي الطريق ببريق عينيه.. إنها لم تعد
خضراء كما كانت، لكنها أصبحت مزيجا للونين، لون أخضر ربيعي ينحسر، ولون ذهبي صيفي
يزحف، أحس أنه يقع تحت وطأة حب قسري لم يحدث من النظرة الأولى...فهل هناك حب يولد
مع النظرات الأخيرة !!
متواضعة هي جغرافيا هذه البلدة ، ولو أن أحداً أراد الكشف عن أسرارها، والخوض في
خباياها، لما تطلب أمره أكثر من أيام.. فكيف بمن قضى تحت سمائها اثنتي عشرة عاما!
عن
ظهر قلب حفظ السيد صالح تقلبات أيامها الرتيبة، ورصد مواعيد أنشطتها المتواضعة ،
وتنبأ باختلافات طقسها المعتاد ..
وزحفت رتابة أيامها الى نفسيته.. وحركة أيامه...لكن لماذا يحس بأن هذا اليوم يحمل
شيئا غير عادي، شيء مبهم، مجهول، غير واضح المعالم يكدر صفوه ..!!
حاول إبعاد هذا الشعور..هز رأسه هزة سريعة وكأنه يحاول إبعاد فكرة سيئة عبرت به،
وقال لنفسه :" كم يؤثر كلامك في نفسي ياسناء.. لقد نجحت كعادتك في أن تنقلي الي
مخاوفك .."
وتذكر أن يأخذ نفساً عميقاً يمكنه من العودة الى هدوئه ..
لكنه شرد بفكره من جديد..كم هي سريعة سنوات العمر.. لقد دخلت هذه البلدة وأنا أعتقد
أنني لن أمضي فيها أكثر من أربع سنوات، إلا أن محبة بعض الأهالي، وانسجام الأبناء
وذوبانهم السريع مع أقرانهم ، جعلتني أمدد فترة إقامتي وأؤجل العودة الى الوطن ..
لايعلم إن كان حب هذه البلدة هو ماجعله يفرط في وظيفته التي كانت تنتظره في وطنه ،
أم أنها تلك الخيوط الرفيعة التي لاتكاد تميز الحب عن الاعتياد والألفة!
أتراه كان الركون الى الأمر الواقع، مصوراً على شكل "استقرار"؟
أم
هو التفكير في نتائج نقل الأولاد من مدارسهم، واستبدال طرق ومناهج تعليمهم بأخرى،
قد تختلف عن ما هو متبع في وطنه الأصلي؟
أم
أنه تشابك المصالح التي تجذبنا اليها بأوهام واهية؟
هو
نفسه لايستطيع أن يؤكد سبباً واضحاً، ولكنه يستطيع - في مفارقة غريبة - أن يقسم
بأنه ماأحب يوماً البلدات الصغيرات !
وهنا مكمن الغرابة في بقاء استمر أكثر من عقد من الزمان !
ولو
كان لهذه البلدة صخب يجذبك اليها، لأرجعنا سبب بقائه الى ذلك، ولكنها بلدة اعتادت
الهدوء، واستسلمت له، واختارت الاستمرار بأقل قدر من الأصداء والإيقاعات .. فما بدر
عنها يوماً مايثير الانتباه، أو يشد الانظار.
بلدة قدر لها أن لاتصنف من بين البلدات الجميلات بذاتها، ولكنها من تلك التي منّ
الخالق عليها بجمال ماحولها، لكي لاتكون نسياً منسياً أو هجراً مهجوراً...
فأشجارالبرتقال واللوز التي أحاطت بها وشكلت لها أسواراً من الخضرة المشبعة بالحياة
.. جعلتها تبدو كلوحة باهتة، متواضعة أحاط بها إطار جميل ثمين، فمنحها سحراً
غامضاً، وجمالاً ممتنعاً..
جمال لا يُنسب الى أهلها، فهو لم يكن من صنعهم أو انجازهم أو ابداعهم ..إنما كان
إحدى انجازات المستعمر الفرنسي، الهادفة الى ترسيخ وجوده وتدعيم بقاءه..وإن كان قد
استخدم في ذلك سواعد أهلها من الضعفاء والمحتاجين والمستسلمين، الذين كانوا يريدون
قوتاً لهم ولأبنائهم..
ومما زاد في سحر هذه البلدة غموضاً، وأضاف اليه أسراراً.. ذلك التغير الدائم الذي
كانت تخضع له تحت تأثيرات الفصول الأربعة.. لقد كانت تعيش تلك الفصول بملء خصائصها
.. فكان يجعلك ربيعها في روضة من رياض الجنة، ثم يأتي صيفها ليجعلك تتقلب على بلاطة
من بلاط جهنم.. وبعد طول انتظار يبادرك شحوب خريفها بكآبته حيناً وابتسامته حيناً
آخر.. الى أن تجد نفسك تحت وطأة شتائها القارس الذي ينتقم بضراوة من كل معاني
الحرارة والدفء .
نعم
إنه واثق من أنه لم يحب يوماً البلدات الصغيرات..
إذ
فيها تكثر مراقبة الناس بعضهم لبعض.. وتمتليء عيونهم بالفضول والحسد..
وفيها تكاد تكون البيوت بلا أبواب ولاجدران، فكل شيء عنك يعلمه الجميع، وكل شيء عن
الجميع تعلمه أنت.. يتم ذلك بدون أن تقصد، هكذا.. تأتيك المعلومات عن الآخرين بشكل
تلقائي، وبدون طلب منك..فلا شيء أكثر أهمية هنا، من تلك الأحاديث التي تلتهم
خصوصيات الآخر، وتتلذذ بها، إنها أفضل وسائل التسلية، في مكان لم يتجه أهله يوماً
الى تفريغ طاقاتهم في شيء مفيد وانجاز بناء.!
ويكون الأمر أسوأ حين يدخل غريب بلدة كهذه، إذ ما يلبث أن يوضع تحت الأنظار، وتتبعه
أعين الفضول، وتلاحقه استفسارات التطفل ..
أما
ابتسامات الأهالي التي تبادرك كيفما اتجهت، فلا يمكن الوثوق بها كإثبات على حبهم لك
، ولاأحد يعلم حقيقة مافي النفوس ، ولا ماتكنه القلوب ...
في
كثير من المناسبات كان السيد صالح يلمح تلك الابتسامات وقد مزجت بنظرات حسد، من بعض
من يعتقدون أنه ينال قدراً أكثر مما يستحق من الاحترام والحب...وحجماً مبالغاً فيه
من السمعة الطيبة.. التي كان مصدرها نجاحه وإخلاصه في عمله كمدرس لمادة الفلسفة !!
ولكنه سرعان ماكان يتجاهلها ويقلل من أهميتها، خاصة حين كانت زوجته تطلب منه العودة
الى الوطن.. لقد كان يسارع الى القول مدافعاً:"المهم أن إدارة المدرسة راضية
عني...والمهم أيضاً أن علاقتي بالطلبة علاقة ناجحة جداً، إنهم دائمو التعبير عن
حبهم لي وتمسكهم بحضور حصصي والاستفادة من كل ماأقدمه لهم".
وفي
هذا الصباح فتحت معه نفس الموضوع، وأبدت تخوفها من بعض سلوكيات أهل البلدة، ومن بعض
العيون التي راحت تتجه اليه حسداً ..فما كان منه إلا أن قال وهو يرتشف بهدوء فنجان
قهوته الصباحية :
"سناء..الطلبة هم استثماري الحقيقي الذي يجعلني أتجاهل الكثير من المنغصات في هذه
البلدة..إنهم أبنائي .."
لكنها سألته وعلامات قلق تغرق وجهها:
-
ترى ماذا يريد منك مدير الثانوية ؟
-
ماعساه يريد أكثر من مناقشة بعض الأمور المتعلقة بالامتحانات النهائية !
-
ولكنك كنت في اجتماع معه بهذا الخصوص منذ يومين ، وناقشتم كل شيء..
-لاتقلقي
.. ياأم أحمد ، لن يكون إلا الخير.. ويضيف مازحاً وهو يضع من يده فنجان القهوة الذي
أفرغه برشفة أخيره، زوجك لم يسرق ولم يقتل ولم يرتكب جريمة مخلة بالأخلاق!
-
أنا لست مرتاحة لهذا اللقاء ! حاول أن تتصل بي بعد فراغك من الحديث معه..أرجوك .
أمسك رأسها بكفيه وركزنظراته على عينيها وقال مبتسماً: رأسك الصغير هذا دائم القلق،
أريحيه قليلاً..وطبع قبلة على جبينها وانصرف..
هاهو يقترب من مدخل المدرسة بدون أن يفارقه ذلك الشعور المبهم الذي يلازمه منذ
الصباح ويبعث القلق في نفسه!
بل
هو في ازدياد، أو لعله في تحول .. نعم لقد تحول الى أحساس غريب بالخوف من أمر ما
وفكر من جديد: "سامحك الله يازوجتي العزيزة لقد نقلت الي مخاوفك كما تفعلين دائما
!"
أوقف سيارته عند مدخل المدرسة، حمل محفظته السوداء النظيفة، وتوجه يخترق جموع
الطلبة مووزعاً تحياته على كل من يعترضه، ببشاشته المعتادة وابتسامته الساحرة .
عشرة دقائق قبل أن يقرع الجرس، استغلها في الوقوف مع بعض الطلبة والطالبات، يجيب عن
أسئلتهم المتعلقة بالامتحانات ، ويقدم لهم توجيهات مخلصة، لما يجب أن يركزوا عليه
في دراستهم استعداداً لامتحان الثانوية العامة، الذي عاد كابوساً مرعباً، وينبههم
بحنان بالغ ومحبة كبيرة الى النظام الأكثر تلبية لمصلحتهم أثناء الامتحانات، لكي
لاتتضرر صحتهم ونفسياتهم..
ملأ
صوت الجرس جنبات الثانوية، وفجر في نفسه الكثير من الأحاسيس التي لم يلتفت اليها من
قبل ..
أحس
أن لهذا الجرس نبرة حية لفت كامل جسمه بقشعريرة غريبة !
وأحس أن لصوته نغمة حلوة أحبها عبر السنين وأخلص لها!
وأحس وكأنه واقع في غرام هذا اللحن بدون أن يعلم!
وأحس أن صوت الجرس امتزج بكيانه حتى عاد لحنا كلحن الخلود.. الذي يبعث فيه الحياة
ويجدد فيه الحماس ، ويجعله يندفع نحو أهدافه السامية اندفاع المحب الى حبيبه !
ولام حاسة سمعه التي حولت صوت الجرس الى أمر معتاد، فأفقدته فرص الاستمتاع اليومي
بلحنه عبر السنين !
ولام العادة التي تقتل فينا تذوقنا الحي للأشياء الجميلة، والأشياء التي نحب ..
اتجهت جموع الطلبة الى فصولها ..محدثة فراغاً كبيراً في وسط الساحة ..نظر السيد
صالح حوله ليكتشف نفسه وحيداً وقد تفرق عنه الطلبة بعد أن كانوا يحيطون به.. انتبه
الى ذلك وأسلم نفسه الى خطاه..خطى مترددة متثاقلة، بالكاد استطاعت ايصاله الى مكتب
المدير حيث الموعد المرتقب..
تبادلا التحية باحترام بالغ من كليهما للآخر .. تبادلا الابتسامات ... تبادلا
الأسئلة المعتادة عن أحوال الأهل والأولاد ... جلسا، وبدأ المدير بالكلام :
-
لست أدري كيف سأبدأ، ولكنني أعرف أنك رجل مؤمن، وقوي، وقادر على مواجهة الأقدار..
كما أدرك عمق تفهمك لطبيعة البشر وطباعهم .. هناك من الناس من يكره أن يرى نجاح
الآخرين ، وهناك من يحسد الآخرين على كل شيء..
-
ولكن مالأمر ياسيدي ؟ لقد أقلقتني..
-
يسعدني أن أخبرك أنك قد أديت مهمتك بنجاح بالغ طوال تلك السنين، ولقد اكتسبت محبة
واحترام الطلبة والمدرسين وكل العاملين في هذه الثانوية .. ولكن.. لايخلو الأمر
دائما من حاقد أو كاره !
وأصبح السيد صالح أكثر فضولاً، وكرر:
-
هل تخبرني مالأمر ؟؟
ورفع المدير ورقة كانت أمامه على المكتب .. رفعها بتردد شديد وقال : إنه أمر بإنهاء
خدماتك ! أمر من جهات أمنية ...
-
السبب ؟؟
-
استغلال مادتك في بث أفكار غير مرغوب بها.!
وساد المكان صمت عميق، صمت أبلغ من أي حديث.. أو كلمة.. أو تعليق..!
وتبادل الرجلان نظرات صرحت بالكثير من المسكوت عنه .. نظرات بدت كأن الزمن توقف
عندها...