الخطوات الأخيرة

أحمد حمودة / المغرب

[email protected]

... ها أنذا راحل أبحث في داخلى عما يجمع شتاتي، ولا أجد سوى فراغ موحش ، وأبحث في خارجي حيث البحر يموج، ويضطرب بجباله ومكنوناته وبالزبد، وكلما اشتد اضطرابه ازداد زبده .. فأفحصه بيدي فلا أجده شيئا ...
وأواصل رحلتي في البحث ... أين ؟ لا أدري. حتى متى ؟ لا أدري . فقط أشعر بالملل بل بالسأم ، وأحلم براحة وسكينة .

كانت سنين مثقلة بكدها وحيرتها و لهوها.. أراها الآن طويلة قد أثقلت نفسي، وتركت خلفها آلاما جمة، ورغبة حثيثة في التخلص من أوزارها.. كم هي كثيرة تلك الأيام، بل الشهور، بل الأعوام التي قتلتها هناك حيث عنفوان الرغبة.. نعم، لقد قتلتها، فأنا الآن لا أملك منها شيئا.. كنت مبعثرا بين عديد من النوازع والرغبات.. وكان لها بريق مغر ولمعان؛ لكن ترى كم منها أرواني ؟

آه .. إذا لما خطوت هذه الخطوات في رحلتي الحزينة هذه التي لا أعرف منتهاها، وشخَص أمامي ذاك الذي أصبح يطاردني، وقال: أنت حائر لم تجمع أمرك على شيء أبدا.. أنت حائر .. حائر، هكذا قال ذاك الذي هزني أول مرة بعنف فانشطرت نصفين، وكان هو نصفي الغريب الجديد الذي أوقعني في ما أنا فيه الآن، فهو غير راض أبدا خلافا لنصفي الآخر هذا الذي عشت وإياه أوبه عشرات السنين، والذي أصبح الآن في غاية التعب والإعياء. وأنا تعب بل أنا تعَب، و شعوري بحالة التبعثر والضياع يزداد.. .

أواصل المسير، أبحث، وألم العجز ينازعني، ويعتصر مني الفؤاد، و ما معي من نور أرى به في عتمتي التي في داخلى، أو التي أنا غارق فيها، ولا وميض .

ها أنا ذا أخطو مثقلا بما خلفته السنون السالفة، وأود لو استطعت التخفف من ذاك الحمل البغيض.. الذي بدأت أشم رائحته تزكم أنفي، رائحة أكرهها بل أضجر منها .. في طريقي لا أكاد ألتفت إلى شيء فالأشباح المتحركة حولي لا أراها تشاطرني إحساسي الجديد، وما وجدتها من قبل تود مشاركتي الألم، نعم كانت تمد لي من حبل الرغبات، وكانت تشاطرني بل تزاحمني في لهثي وراءها.

مازلت أواصل المسير مثقلا بحمل السنين، وأكاد أمد يدي لمن ينتشلني من ذاتي، من نفسي القلقة، ويعبر بي إلى بر أمان حيث السكينة والراحة، و كلي خشية من أن لا تتاح لي فرصة للانسلاخ من ذاتي التي طالما مالأتني وأغرتني.

الصخب يعلو من حولي، والأشباح كفراشات الليل تحوم حول سراب، والأضواء الراقصة في كل مكان تبعث الحياة الكاذبة في الموات، وشَخَص لي مرة أخرى نصفي الذي أصبح يطاردني قائلا: لا تعبأ بها.. تجاوزها هيا فلطالما سعيت وراءها واقتنصت منها طرائد، فما زادتك إلا شرها، وخطوت بعيدا إلى ما لا أدري سوى أنه منجاتي، وسمعت الصوت يعلوا، ولأول مرة منذ صباي أسمعه فيثيرني، وكأني ما سمعته في ما مضى من حياتي أبدا، بدأت أشعر بانجذاب نحو مصدره، وفكرت أن أرتاح قليلا إلى جواره، فقد تعبت من السعي هنا وهناك بلا جدوى.

ها أنا ذا أخيرا أخطو صوب الصوت، ثم أسرع الخطى، وينتابني شعور غريب لم آلفه من قبل شعور براحة وشوق. . . إني أسرع الخطى أكثر وأكثر، وها قد وصلت، وأقف أمام البوابة الواسعة، فلأنزع حذائي ولأدخل.. نعم، سأدخل لعلي أنعم براحة في صحنه وأحقق سلاما مع ذاتي .. انحنيت لأخلع حذائي فبدأت أشعر بدوار وأنا أفقد توازني .. أهوي إلى الأرض وينكفئ مصراعا البوابة الكبيران أمامي دفتان من ظلام تنسحبان من الجانبين ويتقلص الضوء.. يتقلص حتي لا يبقى ضوء، وتخفت الأصوات من حولي فلا أكاد أتبينها، وأحس ببرودة تصعد من قدمي المجهدتين لتغمر الجسد الواهن في سكون و... آه .