عطاء
عطاء
غرناطة عبد الله الطنطاوي
ظهرت الأسرة على شاشة التلفاز في صورة عائلية تضمّ الوالدين والأولاد، وابنهم البكر (عاطف) قائم إلى جانب أبيه، وشاربه لمّا يخطّ بعد، مبتسماً ابتسامة غامضة، كأنه على موعد مع القدر المحتوم، الذي خطفه من حضن والديه وإخوته الصغار، وهم مبتهجون بهذا العيد السعيد..
كان عاطف قد استأذن والديه ليخرج قليلاً ثم يعود، وما إن خرج من صحن الدار حتى صرخ صرخة مروّعة... فقد سقط على رأسه عمود ضخم من الحديد الصلب كان مرتكزاً على الباب الخارجي... هوى على الأرض متخبّطاً بدمائه، وصفرة الموت تعلو وجهه البريء.
طار والده به إلى المستشفى، ولكنّ دماغه قد مات، وقلبه يرتعش ارتعاشات الموت الرهيبة... قال له الطبيب:
- ابنك قد مات ولا أمل له في الحياة.
قال الوالد والدموع تغرق وجهه:
- ولكن قلبه الطاهر ينبض.
هزّ الطبيب رأسه متأسفاً:
- بما أنّ دماغ عاطف قد مات، فلا نجاة له.. هذا ما أثبته الطب الحديث.
أسند الوالد ظهره إلى الجدار، وأجهش ببكاء عميق يقطّع نياط القلوب، وإلى جانبه الأم الثكلى، تنتفض كالعصفور الذبيح...
في هذه اللحظة الحرجة، برقت في ذهن الأب المكلوم خاطرة ، رأى أنّها قد تعوّضه عن ولده المفقود... مسح الدموع عن وجهه وقال بصوت متهدّج:
- إذا كان الموت محيطاً بولدي، فليستفد بعض المرضى المحتاجين من أعضاء ابني كلها...
ثم غطّى وجهه بكفيه وأجهش ببكاء عاصف...
تقدمت أمّ عاطف وقد أنهكها الثكل، وهزّت رأسها بموافقتها، فهي تريد أن ترى قلب ابنها ينبض في أي جسد كان، وبهذا تعيد الأمل لقلب أمّ متفطّر على ابنها المريض...
بُهت الطبيب من هذا العطاء النادر لوالدين فقدا الولد البكر والأمل والمستقبل، وقال في نفسه:
"لا تزال الدنيا تنبض بالخير، في خضمّ المظالم التي تكتنف حياة ناسها... في هذا الزمن الصعب.."