يا ابن بطني
يا ابن بطني
عبير الطنطاوي
جالسة في البيت
تنتظر مقدم الضيف المسافر الحبيب .. الذي طال غيابه ، وازداد الشوق إليه ، قالت
تحدث نفسها :
ـ منذ خمس سنوات لم أره .. أنجب من عروسه التي رأيتها في أيام زواجها الأولى فقط
قبل منعي من السفر إلى السعودية عنده ، أنجب منها ثلاثة أطفال .. ياه .. يا للأيام
المسرعة ..
الساعة تدق وتدق والانتظار يطول ويطول .. حتى إنها قد شكت في سلامة الساعة عندها
فأمسكت بالهاتف تستفسر عن الساعة فلما جاءها الجواب قالت في نفسها :
ـ نعم صحيح .. هذه الساعة مقصرة دقيقتين .
وبعد ساعات من الانتظار أمام نافذتها المطلة على الشارع .. ومن بعيد لمح قلبها قبل
عينها سيارة (جيب) تشق الطريق في تراخٍ ثقيل إلى البيت ..
شعرت بأنها تطير فرحاً .. ها قد عاد ..
استقبلته وأطفاله وزوجته بحفاوة منقطعة النظير اختلطت فيها الدموع بالضحكات
بالكلمات بالقبلات والقبلات والقبلات .. والعناق الحار الشديد ..
ولم يمض على جلوسها مع الأحبة سوى جزء من الساعة إلا والزوجة تأمر الصغار الثلاثة ـ
الكبيران توأمان في الرابعة من العمر والثالث في الثالثة من عمره :
ـ هيا إلى النوم .. نرتاح من عناء السفر ..
انتفضت الأم ملهوفة :
ـ يا بنتي بكير على النوم .. خليكم معي لوقت آخر .
إلا أن الكنّة قالت بعصبية :
ـ يا حماتي أنا أعيش على راحتي في بيتي ، ولا أريد أن أغيّر نظام حياتهم .
وخلال ثوانٍ كان الصغار والأم في الحجرة المخصصة لنومهم .. قالت الأم لابنها الغالي
(سامي) :
- خمس سنوات يا ولدي ، لم تأت خلالها ؟
قال سامي باستغراب :
- هل أقطع رزقي بيدي لآتي إليك ؟ يا أمي عملي هو السبب .
وقبل أن تتفوه بكلمة أخرى قال (سامي) متثائبا وقد نهض قائماً :
ـ أنا بحاجة إلى النوم جداً .
وانصرف بلا إذن أمّه. ..
بعد ساعة قدمت أختاه (هيفاء) و(هالة) ومعهما الصغار للتسليم على أخيهما الغالي ..
وكل واحد من الصغار متلهف لرؤية هدايا الخال المسافر، وأولاد الخال وخاصة التوأم .
استقبلت الأم ضيوفها بوجوم .. وكآبة تلفح وجهها النوراني المؤمن ..
وأخذت أذنها تلتقم التعليقات اللطيفة الغيورة المحبة :
ـ جاء الحبيب ليأخذك منا ..
ـ يا لله من لقي أحبابه نسي أصحابه ..
وتنبعث الضحكات في أرجاء المنزل .. وتتصاعد صرخات الأطفال: أين خالو .. أين الأولاد
؟
والأم في مكانها لا تنطق ببنت شفة .. إلى أن ظهر الخال فجأة (بسرواله القصير وقميصه
الداخلي الشيال ) بمنظر يخدش حياء الموجودين وقال غاضباً :
ـ اسكتوا يا قرود .. أنا والأولاد مرهقون من السفر .. نريد أن ننام
سارعت أمه نحوه تلكزه وتغمزه وهي تقول :
ـ أنهم أولاد أختيك جاؤوا ليسلموا عليك ..
وركضت الأختان تقبلان الأخ وتدعوان له بالصحة والعافية .. ولم يجد بُدّا من
مقابلتهما بالمثل .. ومضى الوقت من دون أن يدعو زوجته وأولاده ليجلسوا مع العائلة
بحجة أنهم نيام ..
أخذت الأم ولدها على جنب وسألته بحياء :
ألا تفتح الهدايا وتقدمها لأختيك وللأولاد؟.
لكن (سامي) ابتسم باستخفاف :
ـ أيّ هدايا يا أمي ؟ هن جئن لأجل الهدايا ..
وكعادته بادر مسرعاً قبل أن يعطي المجال لأمه بالحديث :
ـ هذه العادات انتهت من زمان .. ولكن إن كان لدى أختيّ مشكلة مالية فرقبتي سدادة
و...
قالت الأم بحزن عميق :
ـ اسكت يا ولدي أرجوك .. أنا سأعطيك من ذهبي خاتمين أعط لكل واحدة من أختيك واحداً
واعتذر للصغار عن تقديم الهدايا لهم هذه المرة.
ومضى الموقف بنوع من الحرج والاستغراب وكل من الأختين تغمز الأخرى بأنها قد رأت هذا
الخاتم عند أمها من قبل .. وخرجن من البيت من غير نية العودة .
ويمر أسبوع من الإجازة والابن الحبيب من سوق تجاري إلى مطعم فاخر إلى ملاهي ممتعة
مع زوجته وأولاده ، ويعود في آخر الليل لينام وقد يرمي قطعة من الدجاج محمرة لأمه
التي طال انتظارها لهم على الغداء دون جدوى أو بقطعة من الثياب كهدية ..
أما الأم فالهمّ قد اعتصر قلبها ، وتكاد تمزق بطنها الذي حمل هذا القاسي أشهراً
تسعة ولم يتعلم فيها معنى الحب، وتتمنى لو تقطع الثدي الذي أرضعه يوماً لبناً دون
أن يسقيه معه الحب ومعنى صلة الأرحام ..
في الليلة الثامنة عاد (سامي) وأسرته من رحلتهم كالعادة .. ولما دخلت زوجنه الحمام
وجدت سلة الغسيل التي أحضرتها معها من بيتها لتضع فيها ملابس أسرتها الوسخة في معزل
عن ملابس حماتها ، وجدتها فارغة .. أي أن حماتها قد غسلت غسيلها .. فهرعت خارج
الحمام كالمجنونة ، وصرخت :
ـ سامي .. تعال حالاً ..
وما إن حضر سامي حتى دار نقاش غاضب سريع حاول (سامي) فيه تهدئة زوجته دون جدوى ..
والأم في الداخل مع الصغار تسألهم عن رحلتهم والصغار يقولون :
ـ يا ليتك يا جدة كنت معنا ..
ـ سأطلب من أبي أن يأخذك معنا غداً .
وبينما هي بهذه السعادة الصغيرة .. إذا بها ترى ابنها وزوجته، يحملان حقائبهما
ويضعانها قرب الباب ..
وشاهدت كنتها تغادر البيت مسرعة تنادي بواب العمارة ليساعد سامي في حمل الحقائب .
ذهلت الأم ، ولم تعد قادرة على القيام من مكانها ..
أما سامي فقد قال بأسف خائب بعد أن أعطى مفاتيح سيارته (الجيب) للبواب ليحمل بها
الحقائب :
ـ منذ أن قدمت وأنا أحاول أن أتجنب المشاكل بينك وبين زوجتي .. دون فائدة .. لا
أفهم ما هدفك من دمار حياتي ؟ ماذا عليك لو تركت زوجتي تغسل ملابسنا على حدة واغسلي
ثيابك أنت على حدة .. يا الله الله يسامحك .. يا أولاد هيا إلى السيارة ..
وبين بكاء الصغار وقبلاتهم للجدة المذهولة التي وقفت الدمعة جامدة في مقلتيها كانت
الحقائب قد أنزلت .. والأحبة قد غادروا ..
قالت الأم وقد بدت عليها أمارات ارتفاع ضغط الدم والسكري :
ـ أنا أحلم .. لا.. هذا كابوس .. آه يا ابن بطني .. ثلاثون عاماً ويداي هاتان
تغسلان لك قلبك قبل ثيابك ..
وعندما أحست أنها على وشك الانهيار .. اتصلت بابنتها الكبرى التي لم تسمع صوت أمها
ولكنها عرفت أن أمها المتصلة من كاشف الرقم .. أسرعت (هيفاء) وزوجها إلى بيت أمها
وفتحت الباب بمفتاحها لأنها تحتاط دائماً لعارض كهذا فيكون معها مفتاح لشقة أمها ..
وما إن دخل الجميع حتى كانت الأم في حالة من فقدان تام للوعي ..
ولم تفق إلا في اليوم التالي على صوت الهاتف يرن ويرن دون أن تستطيع (هيفاء) الرد
لأنها كانت نائمة على كرسي عتيق قرب أمها التي سهرت عليها طول الليل حتى استقر
وضعها في الصباح فنامت هيفاء وأفاقت الأم على الهاتف ..
رفعت الأم السماعة فجاءها صوت سامي من بعيد :
ـ أمي اغفري لي .. سامحيني .. أمي تصوري .. وصلت إلى بيتي قبل ربع ساعة فقط ، فإذا
بالمجاري قد طفحت مغرقة البيت كله ورائحة المجاري والبراز تملأ المنزل والحشرات بكل
أنواعها والصراصير والفئران والجرذان تقفز على الفرش والأثاث الفاخر في أنحاء
المنزل ، وحاولنا أن نهرب بالصغار إلى الغرف المقفولة كغرفة نومي وحجرة الضيوف
وغيرها ولكن الحالة تتكرر في كل مكان حتى وصلت إلى باب حجرتك الطاهرة التي جلست
فيها بضعة أيام أيام زفافي واتفقنا أن هذه غرفتك لا يدخلها غيرك ولم يدخلها أحد منذ
خمس سنين ، أخذنا المفتاح المعلق على بابها وفتحناه، فلم نجد فيها شيئاً مما في
المنزل لا مجاري لا رائحة ولا حشرات ولا حيوانات ونحن جميعاً في حمى هذه الغرفة
الطاهرة بينما البيت في الخارج خرابة .. وحتى يا أمي قبل أن أتصل بالنجدة أستنجد بك
لترضي عني وتسامحيني حتى أنجو .. هذا غضبك يا أمي.. هذا غضب الله .. هذا عمل
الشيطان الذي جعلني أسافر من الأردن إلى السعودية براً من دون رضاك ..
انخلع قلب الأم على مصاب ابنها وغارت الدموع من عينيها وهي تقول :
ـ الله يسامحك يا ابن بطني ويرضى عليك ويخفف مصابك ..