خنساء فلسطين

خنساء فلسطين

محمد الخليلي

[email protected]

ماعادت قصص الخنساوات منذ انطلاقة انتفاضة الاقصى قصصا غريبة لأننا نسمع في كل يوم عن خنساء جديدة تبدو قصتها أغرب من سابقاتها.

إن كل واحدة من خنساوات القرن الحادي والعشرين تمتلك قصة في غاية الغرابة من حيث التضحيات والصبر. لكن واحدة منهن لم تنل شرف الحوز بلقب خنساء فلسطين .

قبل أكثر من اثني عشر عاما كانت أم نضال تؤوي في بيتها العقل المدبر لعمليات استئصال الرجس اليهودي من أرض فلسطين المشرفة. هذا العقل المدبر لعمليات قتل اليهود (بالجملة) كان ينطلق من بيت أم نضال لينفذ وإخوانه عملياتهم الجهادية على التراب المقدس ، حيث يتخذ من بيتها ملجأ ً له .

وذات ليلة طوقت القوات الإسرائيلية المتوحشة بيت أم نضال لعلمها بوجود عماد عقل فيها الذي كان يقول وبكل فخر إنني أتقرب إلى الله بسفك دم اليهود المحتلين .

حشدت القوات الاسرائيلية الباغية حوالي مئتي جندي للقبض على عماد ،لكن أنى لهم ذلك ،فهو الغضنفر الذي نذر نفسه للشهادة في سبيل الله ، فظل يقارعهم ساعات طويلة إلى أن سقط شهيدا في ساح الوغى مضرجا ً بدمائه. واعتقل على إثر ذلك نضال النجل الأكبر للأم المؤوية .

كانت هذه بدايات أم نضال في المكابدة ضد العدو الصهيوني الأثيم . كان ابنها محمد عمره عشر سنوات يوم أن رأى بأم عينه عماد وهو يتصدى ببسالةأمام العشرات من جبناء جنود العدو .

ولما انتفض الشعب الفلسطيني المكابد أواخر سنة 2000 كان لعائلة أم نضال القسط الأوفر بين العائلات الفلسطينية التي حازت شرف الدفاع عن الأقصى المبارك . نظرت الأم إلى أشبالها الخمسة وهتفت فيهم : نضال  محمد وسام مؤمن روَّاد إن فلسطين الحبيبة تناديكم فإياكم أن تهملوا نداء الوطن . شنفوا آذانكم لسماع منادي الجهاد ، وأصيخوا بالسمع لاستغاثات الأقصى وهو يئن تحت الإسار . أرأيتم إلى مافعله حفيد القردة والخنازير (شارون ) وأزلامه حينما حاولوا اقتحام الأقصى الشريف . المسجد الحزين يرسف في أغلال الأسر .. يستصرخكم .. يستنجدكم .. وافلسطينيَّاه فَهِم الصِيد الخمسة فحوى رسالة أمهم الحبيبة ، فما كان مهم إلا أن نطقوا بصوت رجل واحد : لبيك يا أماه.

كانت فرحة الأم كبيرة حينما ترى كل شبل منة أشبالها الخمسة وقد اشترى سلاحا فرديا من نقوده الخاصة . ولكن فرحتها كانت الأعظم حين رأت ابنها محمد وهو يتدرب على سلاحه الذي اقتناه من مدخراته الخاصة. ضمته إلى صدرها وهي تقول :لأكاد أصدق عيني  حمودة (الدلوع) أصبح رجلا ويقتني السلاح بل ويتدرب عليه . يالله ماأعظم فرحتي . وندت من عينيها جمانتان اثتتين فأخفتهما بكفيها كي لايراهما حمودة ،فهي لاتريد أنن تظهر أمام أولادها بمظهر الضعف . فسرعان ماكفكفت دموعها وقالت لحِبها :امض على الطريق التي مات عليها الشهيد عماد عقل رحمه الله .

محمد :إني لأحلم ياأماه أن أكون مثل عماد .

الأم :  ولم لا .

محمد : ولكني صغير السن .

 الأم  :ولكنك ستكون كبيرا بأفعالك ياحمودتي .

محمد :كفي عن تدليعي ياأماه .

الأم : حاضر يا(فندم) .

محمد : ادعي لي الله بالشهادة ياأماه .

الأم : وقد رفعت كفيها للسماء  اللهم ارزق ابني وحبيبي الشهادة ، ثم مسحت كفيها ودارت بهما عبراتها .

محمد : آمين ،ولكن مالي أراك تبكين ،وأنت التي خطبت فينا خطبة الجهاد العصماء ؟

ربتت الأم على كتف نجلها قائلة : إياك أن تحسب دموعي دموع حزن ، إنها دموع  فرح والله .

هز محمد رأسه مصدقا ً: أجل إني أصدقك يأماه ،ولكنها مشوبة بشيء من الحزن .

الأم : أنت تعلم مامعنى قلب الأم ، ولكني والذي نفسي بيده ،أدعو لك المولى عز وجل أن يرزقك الشهادة ؛كي تُرزق بالحور العين .

إن كل أم تريد أن تقتفي أثر خنساء فلسطين لابد لها أن تقرأ عنها الكثير الكثير فهي مدرسة في الصبر ، مدرسة في الجهاد ، ومدرسة في التضحيات .

إن أشبه ماتعمله أم نضال هو أنها تنتزع قلبها من بين جنبيبها ،فتغسله من أدران المحبات الدنيوية الأرضيه ، وتطهره من رجس الإخلاد إلى الدنيا ، وتنقيه من معلقات الشوائب الأميَّة ؛ لتجعل منه قلبا فولاذيا يناسب في صلابته جو المعركة بين يهود وكل المؤمنين .

إن أم نضال لم تكن تدعو الله أن يرجع أبناءها بالسلامة من ساحات الجهاد ، بل إنها كانت تحذرهم من أن يولوا مدبرين ، ولكن الذي كانت تخافه أن يقع ابنها المجاهد بأيدي حفنة من القرود والخنازير؛ لأنهم لايرقبون في سجين إلا ولا ذمة ، ولايرعون أية مواثيق مدنية تخص حقوق الأسرى والمعتقلين ، بل ويديرون ظهورهم إلى كل التقارير الرسمية التي تصدر سنويا عن انتهاكات حقوق الانسان في فلسطين المحتلة على أيدي الطغمة الباغية من الحكام الصهاينة.

ولم يكن تخوف أم نضال نظريا ، ، بل إنه تحقق عمليا عندما اعتقل ابنها وسام ، وهو مايزال الآن  يقبع في أقبية النازيين الجدد ، اليهود الملاعين، المغضوب عليهم من رب العالمين .

ولكم كان حزنها شديدا حينما لم يتمكن بكرها نضال من تنفيذ عمليته الاستشهادية  . فقد كان نضال يحاول تجميع قطع لطائرة حربية لاستخدامها في حرب الانتفاضة الباسلة على العدو الهيوني الغاشم. ولكن اليهود الملاعين دسوا له عميلا وضع له متفجرات في أحد أجهزة الطائرة ، فما أن بدأ المجاهد نضال وصحبه بتجميع قطع الطائرة حتى انفجرت به وبثلة مباركة من إخوانه المجاهدين المرابطين فصعدت أرواحهم البريئة إلى بارئها.

وفي الشهر التاسع من سنة2005 كان روَّاد الابن الأصغرلأم نضال على موعد مع الشهادة . فقد قرر قادة العدو التخلص من رواد على طريقتهم الجبانة الخسيسة .

امتطى رواد سيارته عائدا من عمله ليضع في يدي أمه الحنون (غلة) اليوم بعد أن أمضى يوما حافلا من الكد والعناء. ولكنه هذه المرة لم يكن ليدري أن أمه لن تراه بعد هذه المرة إنسانا سوي الخلقة بل ستراه مزقا .

أطلق الجبناء الصهاينة عدة صواريخ من طائرة (الأباتشي ) الحربية على سيارته لأنهم لايقوون على مواجهة آساد الانتفاضة ، فاخترقت الصواريخ جسم السيارة فحولت المجاهدين إلى أشلاء متناثرة .

وفي المساء وصل رواد محمولا على الأكتاف مسجى ً بالعلم الفلسطسني .  منعت الأمهات أم نضال من أن تكشف العلم كي تلقي على ابنها الشهيد نظرة الوداع الأخيرة ؛ خوفا عليها من أن تصاب بصدمة لشدة مامزقت الصواريخ جسم الشهيد الشريف .

ولكن الأم المصابرة اقتحمت غرفة الثلاجة قائلة لهم : أنا من دفعه إلى الجهاد ، وكنت أعلم أن هذه السبيل قد تكون نهايتها مفجعة ؛ لذا لاتخشوا عليَّ رؤيته ممزقا ً ، فأنا اخترت له هذه الطريق ، وأنا المسؤولة عن نتائج ماأفعل .

وانكبت الوالدة المحزونة على مزق جسد ابنها الطاهر تجمعها في الكفن وتقبلها واحدة تلو الأخرى ، وهي تقول طبت حيا وميتا ياأصغر أبنائي . أين الدلال الذي كنت تطالبني به يوم أن كنت تطلب أطايب الطعام والشراب ؟فأقول لك إن المجاهد في سبيل الله لاتعرف الدعة إلى حياته سبيلا ً. فتقول لي أما أنا فلن أسلك سبيل إخواني في الجهاد ؛ كي لاأفجعك بمقتلي ، فأقول لك ولكن الخليفة عمر بن الخطاب أوصى بقوله : اخشوشنوا فإن النعم لاتدوم   .

خرجت الأم المفجوعة من غرفة الثلاجة والنساء والرجال ينظرون إليها مشدوهين إذ لم تذرف دمعة واحدة على صغيرها.!

لقد وصمت المرأة منذ القدم أنها لا تستطيع الاحتفاظ بالأسرار ، ولكن أم نضال كما عودتنا احتلت مركز الصدارة في تحطيم الأرقام القياسية النسوية . قليلات هن الأمهات اللاتي كن يعرفن سلفا ً أن أولادهن سينفذون عمليات استشهادية ن لكن أم نضال كانت الوحيدة التي عرفت هذا السر قبل حدوثه بأربعة أشهر .

كانت الأم قد كشفت سرابنها منذ اللحظات الأولى حين رأته يتدرب على سلاح اشتراه من مدخراته الخاصة ، ففرحت لذلك أيما فرح وسألته هل ستنوي تنفيذ عملية استشهادية بهذا السلاح يا حبيبي محمد ؟ فأجاب الغلام : أجل يا أماه .

بقي محمد يتدرب شهورا ً على العملية النوعية التي سينفذها رغم حداثة سنه ، فهو ابن التاسعة عشرة ولكن قائديه أسندوا إليه عملية صعبة التنفيذ ، ولكن محمد الذي تتوق نفسه بالشهادة يحلم ليلا ً ونهارا ً بالحور العين الذين يقول لأمه أنهن بانتظاره على أحرَّ من الجمر .

لم تهتز الأم بتاتا خلال هذه الفترة التي فرقت بين معرفتها وتنفيذ العملية التي سيقوم بها ابنها محمد ، فهي التي ربته على هذه الثقافة الجهادية ، بل هي منبع حبه وشغفه للشهادة ، والآن جاء دور التنفيذ فعلام القلق ؟وفيما الخوف من لقاء الله ؟.

كان محمد كل يوم يتدرب على العملية وينتظر بشغف شديد إلى اليوم التي تأتي فيه ساعة الصفر ويطلق له القائد شارة البدء بعمليته .

في الأسبوع الأخير اعتكف محمد على الصلاة والدعاء ولم يقم بالتدريب في هذه الفترة لأنه أصبح على أتم استعداد لتنفيذ المهمة ، ولكنه كان بحاجة إلى التزويد الروحي بقراءة القرآن والإكثار من الصلاة والدعاء .

كان لوداع أم نضال لابنها محمد فتحي فرحات طابعه الخاص ، فعادة ًَ ما كان الاستشهاديون يظهرون في شريط (الفيديو) يدلون برسالة إلى من سيبقى على قيد الحياة بعدهم يعرفونهم بأعمالهم الجهادية وضرورة الانتفاض على المحتل لتحرير الأرض من رجسهم .

ولكن شريط وداع محمد فرحات كان متميزا ً فقد ظهرت فيه أم محمد وهي تعطي ابنها البندقية لكي يقوم بتنفيذ عمليته وتودعه بقبلاتها الحانية وهي تقول له إياك أن تولي الدبر في المعركة ، أودعك حيـا ً، وأرجو استقبالك شهيدا ً.

انطلق محمد لتنفيذ عمليته تحت ستار من الليل ، وفي جنح الظلام استطاع البطل محمد اجتياز جميع الحواجز المختلفة الاكترونية والشائكة والمكهربة وغيرها ، وقبع تحت شجرة ينتظر قدوم أكبر عدد من الضباط الذين يجتمعون في المستوطنة  ليأخذهم الباص إلى مواقعهم العسكرية ، وما علموا أنها المرة الأخيرة لهم ولن يعودوا أبدا ً إلى هذا المكان .

لم يعرف الخوف سبيلا ً إلى جنان البطل محمد ، فجلس الساعات الطويلة ينتظر اللحظة المناسبة لتنفيذ عمليته . وعند مقدم أكبر عدد من الجنود الصهاينة ، بدأ محمد يرشقهم بالقنابل اليدوية ليحدث الهلع بصفوفهم ثم بدأ يصطادهم واحدا ً تلو الآخر برشاشه الأتوماتيكي وهم لا يدرون من أين يفد عليهم هذا الموت ، أهو يصب كالصيب عليهم من السماء أم ينبع لهم من الأرض ؟ سؤال كان يحيرهم خلال الثلث ساعة التي استغرقت فيها عملية البطل محمد وهو يلقم المشط تلو الآخر في بندقيته ليفرغها في رؤوس جنود الإحتلال البغيضين .

ثم لا ينثني أن يفاجئهم بإلقاء القنابل اليدويه عليهم ، فتارة يمطرهم بوابل من رشاشه وطوراً يفرقع بينهم القنابل .  هكذا دأب الكماة إنهم لا يفرون يوم الزحف بل يفدون بصدورهم العارية يتحدون يتحدون أعتى جيش في العالم عدة وعتادا ً، ولكن أفراد هذا الجيش المدجج بالسلاح منهز مون  من الداخل ؛ إذ لم يستطع واحد منهم أن يفكر ولو للحظة واحدة عن مصدر النيران ، بل كانوا يخرون صرعى لجبنهم وتخاذلهم.

وترجل البطل يريد أن ينسحب من المعمعة بعد أن انتهت معركته مع اللقطاء من جنود يهود فقد قتل سبعة منهم وجرح العشرات ، ولكن أحد حارس المستوطنة لما تأكد تمام التأكد أن البطل محمد قد نفذت ذخيرته عاجله برصاصة في رأسه فأرداه شهيدا ً.

وسقط البطل محمد بعد أن سطر عملية نوعية لا أروع ولا أنجح داخل قلب المستوصنة الإسرائيلية البغيضة ،بعد أن تخطى جميع الجور المحيطه بها ، وصدق الله حيث قال { لا يقاتلونكم إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر  بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا ً وقلوبهم شتى هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون }.

ولكن كيف كان موقف الأم المجاهدة ؟ كانت ترقب على شاشة التلفاز الأخبار التي ستنقل عملية ابنها المغوا ر وهي تدعو في نفس الوقت له بالتوفيق لنجاح عمليته ، فتارة تراها تدعو وتتوسل إلى الله ، وطورا ً تتنقل بين الفضائيات علها تسمع الخبر . والحقيقه أنه قد طال انتظارها بسبب انتظار محمد للعسكريين كي يجتمعوا بأكبر عدد ممكن فتكون الخسائر مفرحة له ولأمه وللمؤمنين . أليست هي التي ودعته بقولها " تزحزح قليلا ً يا بني ، ضع يدك على كتفي ، دعني أقبلك قبلة الوداع ، هيا التقط صورتك أيها المصور وأنا أزف ولدي للشهادة "هذه هي الطلبات التي ودعت بها أم نضال العظيمة فلذة كبدها محمد ، لذا عندما سمعت نبأ استشهاده عبر شاشة العدو زغردت وقدمت الحلوى لمن أراد أن يعزيها قائلة هنأوني بشهادته وأنا على استعداد أن أن أقدم أولادي جميعهم قربانا ً للانتفاضة المباركة ؛ وإذا ما أفلتت دمعة مرة تقول : (إياكم أن تصدقوا دموعي) .وهي القائلة لجاراتها ومعزياتها : (من يحب الله والوطن فلا يتوانى عن تقديم أولاده فداءًَ له ، والأم التي تحب ولدها تطلب له النجاة في الدنيا والآخرة وتدفعه للجهاد ولا تجزع عند فوزه بها ، ولا تشمت الأعداء لشعبنا بدموعها على شاشات التلفزة ) .

الشهيد محمد فرحات لم يدخل طليعة عسكرية يتعلم فيها فنون القتال واقتحام المواقع بل تعلمها على يدي والدته (مريم) خنساء فلسطين التي غذته دروسا ً في التضحية والإقدام والثبات .

لقد نجحت أم نضال فرحات في كل الامتحانات التي خاضتها ضد العدو الصهيوني الأثيم :

-  امتحان دفع الأولاد الخمسة للجهاد .

-  حضهم على اقتناء السلاح .            

- الإحتفاظ بسر وتوقيت عملية ابنها محمد البطولية ، إذ كسرت كل المعايير النسوية المعروفة .

- الثبات على المبدأ وعدم التزعزع حين علمها بشهادة أحد أولادها أو اغتياله .

- تقديم مثال يحتذى به لكل الأمهات على درب التضحية والبطولة والشهادة .

- أفلا يحق لنا أن نطلق عليها لقب خنساء فلسطين ؟ أو أصنفها في قائمة أمهات لا كالألمهات ؟؟؟