القرار الحازم

القرار الحازم

إبراهيم عاصي *

بماذا أجيبه ؟ ماذا أكتب له ؟ أأقول إنني تغيبت بسبب تغيب الخادمة عن البيت أم بسبب أنني كنت وحمى ؟ أم لأنني تلكأت في الإذعان للمطلب الباهظ ، الذي أحسست أن فيه أبشع استغلال لحاجتي ؟!

السيدة يسرى حائرة !. تروح وتغدو في غرفتها ، تطل من النافذة حيناً ، وتعود لتهز مهد طفلها الرضيع حيناً آخر.. تقعد ، تقوم ، تتمشى ، تنظر في ساعتها ...

زوجها خرج إلى عمله منذ ساعة ، وهي الآن وحيدة في المنزل . مطرقة هائلة نزلت على رأسها وأصمت مسمعيها . لقد طنت ساعة الجدار طنة واحدة فقط . أعلنت الثامنة والربع صباحاً ، وهو الوقت الذي ترتفع فيه دفاتر التوقيع ، توقيع الموظفين إشعاراً بحضورهم على الوقت المعلوم .

الخادمة لم تحضر بعد . يسرى لا تستطيع الخروج .. لمن تترك طفلها الرضيع ؟! إنها ليست المرة الأولى التي تتأخر فيها الخادمة عن الحضور.. وإنها ليست المرة الأولى التي ستصل فيها يسرى متأخرة إلى الدائرة .. رئيسها شديد الحزم صارم تجاه موظفيه من الرجال ، إلا أنه أشد حزماً وصرامة تجاه موظفاته الإناث ، اللواتي لا يسرحن معه على هواه ، فيبادلنه الابتسامة بأعرض مكنها ، والنكتة البائخة بضحكة متفجرة مغناج ، والغزل الماجن الرقيع بتله واستحسان !.

يسرى رزينة محتشمة ، ولذلك كان يتربص بها دائماً ، وكانت تخشى باستمرار مقالبه وأحابيله ، كما تخشى منه العقوبة لأتفه الأسباب ، فكيف والسبب الآن مهم عظيم ، يرقى إلى درجة التأخر عن ممارسة الواجب الوظيفي المقدس في الوقت المحدد ؟!

أطلت يسرى من النافذة للمرة العاشرة ، وربما للمرة الخامسة عشرة .. أم مبروك لم تصل بعد .. لا أثر لها في الشارع الممتد البعيد ، لعلها اليوم مضربة عن المجيء فعلاً .. ستنفذ إنذارها الذي وجهته لي يوم البارحة لا ريب !. لقد طالبتني بزيادة الأجرة .. ثمانون ليرة شهرياً مع الطعام والكساء لا تكفيها لقاء حضانة الطفل سويعات من النهار.. إنها تطلب الآن مائة ليرة ، وإلا !. لو أعطيتها المائة فماذا يتبقى لي ؟ المائة نصف راتبي تقريباً .. هل يكفيني الباقي ثمناً للأسبرين والسيريلاك ؟ أو ثمناً للأحذية أستهلكتها في جيئتي وذهابي على طول الطريق ؟! لحساب من أشتغل أنا إذاً ؟ بل لماذا أشتغل أصلاً ؟

رباه ما هذا ؟ ما هذا ؟ ألا يكفي أنني صبرت عليها هذه المدة كلها ؟ لقد فضحتنا في الحي كله !. قالت إننا بخلاء نقفل حتى على الخبز !. وقالت أننا لا نحب بعضنا ! وقالت أنه يخونني ! وقالت أنني لا أعرف شيئاً من تدبير المنزل ، بل لا أعرف كيف أقلي بيضة ! وقالت ، وقالت الكثير ..

لقد تحملتها من أجل طفلي الوحيد هذا . جربت التي قبلها فكانت طويلة اليد سارقة .. والتي قبلها فقتلت ابني البكر عندما غفلت عنه فسقط من النافذة إلى الشارع ، بينما هي تغازل ابن الجيران !.

صعقت يسرى فارتدت عن النافذة كالملسوعة حالاً ، لأنها هي النافذة ذاتها التي سقط منها طفلها البكر. انقطع حبل خواطرها ، وانبعث بكاء من المهد في زاوية الغرفة .. أفاق زاهر من غفوته التي لم تطل .. ازداد صراخه ، ألقمته ثديها فعافه وأعرض عنه . لقد نسيه منذ أن بدأ يمتص محلول (السيريلاك والكيكوز) من سدادة القنينة ، فضلاً عن أنه كان ثدياً جافاً ، وحلمته لا تشعر بأنها حلمة ثدي لأم مرضعة ولود !.

هرعت إلى المطبخ تبحث عن الحليب المجفف تريد تحضيره ، وقد فاتها فعل ذلك صباحاً لأنه إحدى مسؤوليات الخادمة أم مبروك .. تصاعد الصراخ أكثر فأكثر.. أعدت الحليب في قارورته بسرعة فائقة ، وكيفما اتفق .. رجعت إلى طفلها تهز سريره تارة ، وتشربه الحليب تارة أخرى .. امتص الحليب برغم سوء إعداده فهو خالي المعدة ، جاف اللسان .. وربما هدهده وخفف من صراخه ، حبات الدموع الدافئة التي أخذت تتساقط على وجهه وصدره من عيني أمه الحائرة الملتاعة .

رباه لمن أشكو حالي ؟ لماذا لم تجعلنا مثل الرجال ؟! مسؤولياتهم محدودة ، كسب وإنفاق وحسب ! وأي ظلم نتحمله نحن الموظفات ؟ عمل حتى الإرهاق خارج البيت ، ثم أشغال لا تنتهي داخل البيت ، ثم تربية للأطفال ،ثم بعد هذا كله تحكم الخوادم بنا وأخذهن بخناقنا دون رحمة ! ألا تكفينا مسؤولية واحدة ؟!

ولكن لماذا أراني أتجنى ؟ وماذا عن الحوار الذي دار بيني وبينه ذات يوم ؟ لقد قال لي :

أنا لا أرغب لك في الوظيفة . فقلت : هذه أنانية الأزواج قال : إنني أريدك أن تتفرغي لشؤون البيت وتربية ثمرات حبنا وزواجنا المقبلين . فقلت : عهد الحريم قد ولى وزال . قال : سترهقين نفسك وتذيبين عافيتك . قلت : هذا كلام مبعثه غرور الرجال . قال : أريدك أماً هانئة سعيدة ، تظلل عشها الزوجي بجناحي حبها ورعايتها ، وتنضجه بندى الرحمة والحنان ، فآثرت أن أجلس إلى الجنس الآخر في الدواوين بين حشود المراجعين ، وزخم الشداد والغلاظ وقلت له : إنها رجعية الفكر لديك ، وإننا في عصر المساواة . قال : توظفي إذن ولك ما تريدين .. كان ذلك في مطلع زواجنا قبل أربع سنوات .

كفت يسرى عن هز السرير ، فقد هدأ الطفل الآن ، بعد أن ارتوى ونام .. وكفكفت ما تبقى في عينيها من دموع .. رجعت كرة أخرى إلى النافذة ، النافذة المشؤومة ذاتها ، أطلت منها .. هل عساها أقبلت أم مبروك ؟ ليس في الشارع من أحد .. إذ إنها لن تأتي بعد الآن .. إنها مضربة ولا شك .. إنها تصر على المائة ، وتصر على استغلال حاجتي لها .. سلاحها الفتاك الذي تغمده في صدري ، هو ذلك النداء المبغوم الذي هدأ قبل قليل .. إنها متحققة من أنني لن أستغني عنه بدار الحضانة أو روضة أطفال .. فلطالما سمعت مني .. وعرفت رأيي في تلك الدور والرياض ، من أنها لا تعدو كونها (مفرخات) كل ما تقوم به هو (تفقيس) أجيال وناشئة يتحركون في المجتمع كالأرقام !. بلا عواطف ، بلا شخصيات متميزة .. ونقف أعداد من اليتامى ، (يتامى الموظفات).

*      *     *

وفي صبيحة اليوم التالي ، قرأت السيدة يسرى على مكتبها في الديوان هذه الرسالة الممهورة بتوقيع المدير :

" إلى الموظفة السيدة يسرى عبد الخالق .

لإعلامنا فوراً عن سبب تخلفك البارحة عن الدوام الرسمي كي نعمد إلى اتخاذ الإجراءات القانونية بحقك ، في حال عدم وجود عذر قانوني مقبول لدينا ".

بماذا أجيبه ؟ ماذا أكتب له ؟ أأقول أنني تغيبت بسبب تغيب الخادمة عن البيت ؟ أم بسبب أنني كنت وحمى ؟ أم لأنني تلكأت في الإذعان للمطلب الباهظ الذي أحسست أن فيه أبشع استغلال لحاجتي ؟!

ولم تسترسل كثيراً في تساؤلاتها تلك ، فمزقت الكتاب بكبرياء من أمسكت بيدها مفتاح سجنها المظلم الرهيب ، وقد انطوت بينها وبين نفسها على قرار حازم جاد لا رجعة فيه .

             

* أديب سوري معتقل منذ عام 1979