ديمقراطية
ديمقراطية
عبد اللطيف النيلة
لأنظارنا المسكونة بالفضول والحيرة، كانت المنصة تلوح من بعيد، تزاحمنا على طول السياج الفولاذي العالي، تحت شمس الظهيرة الملتهبة، من خلل فرجات السياج، كنا نتابع الأسير الهرم، من خلفه جنديان، وهو يخطو، من غير أغلال، صوب المنصة، لمحناه بقامته الفارعة، التي لم يحنها الهرم إلا قليلاً، ينتصب فوق المنصة، في مواجهة الساحة المطوقة بوحدات من قوات نشر الأمن المدججة بالأسلحة، لم نتبين ذلك الألق الذي يلتمع عادة في عينيه، بل إننا لم نستطع تمييز الخال الأسود الرابض فوق خده الأيمن والندبة المرتسمة فوق حاجبه الأيسر، لكننا التقطنا إشارة يده التي رسمت علامة بالسبابة والوسطى.
صعد إلى المنصة، تبعه قائد قوات نشر الأمن محاطاً بأربعة من حراسه الأشداء، أخرج من أحد جيوبه مكبر صوت، وسمعناه، بعد أن حيانا ببالغ الاحترام، يعلن أن العدالة ستأخذ اليوم مجراها، وأن قواته لن ترحل إلا بعد أن تستكمل مهمتها السامية.. ثم التفت إلى الأسير الذي كان قد نحي إلى الجانب الأيسر من المنصة، وقال إن حبل الإرهاب قصير.
لما انتهى القائد من إلقاء خطابه، غمرت الساحة عاصفة من التصفيق، فيما لبثنا نحن، خلف السياج الفولاذي العالي، نعاين المشهد مترقبين ما سيحدث، كان الأسير الهرم لا يزال واقفاً في الجانب الأيسر من المنصة، وكنا نقف، تحت حرارة الشمس المتوقدة، متزاحمين نتصبب عرقاً وقد تنملت أقدامنا، لكننا كنا نرى من بعيد كل شيء، صدحت موسيقى عسكرية، بعد تلاشي أصداء التصفيق، كأنما لتختم المشهد الأول من مسرحية نحن شهودها، أو كأنما لتهيئ أنفسنا المترددة المبلبلة لاستقبال المشهد التالي، أو كأنما لتذكرنا إيحاءاتها بروح النظام والواجب.
تدافعنا واشرأبت أعناقنا كي لا يفلت من أنظارنا الرجل القصير البدين الذي احتل الآن قلب المنصة: أخرج بدوره مكبر صوت من أحد جيوبه، وأجزل لنا الثناء على ما أبنا عنه من روح المسؤولية والانضباط، وقال إنه بصفته قاضي القضاة سيتلو علينا بيان المحكمة العليا وما انتهت إليه من قرار بصدد.. ثم راح يقرأ بصوت متأن واضح:
- "بناء على سيرة المتهم التي تكشف عن...
- وبالنظر إلى ما ارتكبه من.. ضد..
- وانطلاقاً مما أسفرت عنه التحقيقات التي...
- وأخذاً بعين الاعتبار للأهداف الإنسانية التي.. ولشروط استتباب.. في هذا البلد الذي
- ...........
- ..............
- .............. فإنه قد تقرر...."
صدحت الموسيقى العسكرية مرة أخرى، مغطية على ردود أفعالنا التي لم تكن تتجاوز حدود السياج الفولاذي العالي، عاد قاضي القضاة إلى الكلام، بعد أن التقط أنفاسه، رافعاً صوته إلى أقصى حدوده:
- وسيراً على تقاليدنا الديمقراطية العريقة، نسأل الآن المتهم عن رغبته الأخيرة..
في الوقت الذي شهرت فيه كتيبة الإعدام بنادقها، تقدم الأسير الهرم إلى قلب المنصة، أذن له، في جو من التسامح والإشفاق بتنفيذ رغبته، فأخذ في تحريك شفتيه كأنما يلقي كلمة، كان يتكلم ناظراً إلى الأمام كأنه يخاطبنا، ثم ملتفتاً حيناً إلى اليمين، وحيناً آخر إلى اليسار، كأنه يخاطب القائد وقاضي القضاة ومن خلفهما، رأيناه في البداية هادئاً متأنياً، يحرك شفتيه دون يديه، لكنه ما لبث أن انفعل وتوتر، محركاً يديه، ثم راح يتكلم بجسده كله، وقبل أن يصل إلى نهاية كلمته أو رغبته الأخيرة، كان الدم قد غلى في عروقنا وانفجرت أعصابنا وتعالت صيحات البعض منا: الصوت! الصوت!..
لم نكن نسمع شيئاً: كان الأسير الهرم يتكلم من غير مكبر صوت، حدث هرج ومرج، وتأججت أصواتنا: الصاااوت! الصااوت!.. والميكرووووو!
ومن جديد، صدحت الموسيقى العسكرية.