أم الشهيدين
أم الشهيدين
محمد الخليلي
لقد غزت الأحزان كل بيت في فلسطين والعراق وجنوب لبنان ، فما من بيت إلا وفيه شهيد أو جريح أو معتقل ، ولكن عائلة حمود في جنوب لبنان كان لها الحظ الأوفر من هذا الحزن فقد كان لها الشرف الأكبر من المولى عز وجل أن منَّ الله على ولديهم بالشهادة .
وكثير من أمهات الشهداء هن
اللواتي يصبرن ويحتسبن الأجر عند الله طمعا ً في مغفرته وخوفا ً من عذابه ، ولكن أم
إبراهيم ضربت أروع مثل حين سطرت رسالة لأمهات الشهداء في فلسطين تحثهن على الصبر
والثبات وهي المكلومة باستشهاد ولديها . ولم تكن كلمتها عادية سطحية إنما جاءت
تخاطب صميم القضية الجهادية في فلسطين المحتلة ، وتلامس شغاف قلوب الأمهات
المبتليات ، بل تعتبر التكاتف مع الشعب المرابط في فلسطين الحبيبة من أسس الدين
وتعتبر أن الدين أمانة استرعانا الله إياها فعلينا أن نحافظ على هذه الأمانة ببذل
الغالي والرخيص ، وهل هناك أغلى من أن يضحي المرء بنفسه ويجود بروحه .
وفلسطين تحتل مكانة كبيرة في قلوب المؤمنين لأنها أراض مقدسة وفيها المسجد الأقصى
أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، لذا كان الدفاع عنها والذود عن حماها شرف
عظيم يناله كل المجاهدين في أراضيها المقدسة ، وهي الأرض التي فتحها الخليفة
الراشد عمر بن الخطاب وحررها صلاح الدين بعد أن وقعت قرابة قرن في براثن الصليبيين
.
واليوم لقد دنس اليهود الملاعين أرض فلسطين الشريفة برجسهم وأفاعيلهم البغيضة فكان لزاما ً ليس على شبابها فحسب وإنما على جميع الشباب المسلم أن يتنكبوا المسؤولية للذود عن شرف فلسطين المسلم فيمتطوا صهوة الموت ويجودوا بأرواحم كي تستعاد أرض فلسطين السليبة . لذا جاء نداء أم إبراهيم إلى أمهات الشهداء في الأرض المحتلة يلامس شغاف القلوب ويمسح الجرح النازف ويضمده .
وأم إبراهيم لا تتكلم تملقا ً أو نفاقا ً إنما تحكي قصة في غاية الغرابة ترجع بنا خمسة عشر قرنا ً إلى الوراء لتذكرنا بالخنساوات من الصحابيات اللواتي كن يدفعن أولادهن ليكونوا أتون الوغي في ساحات الجهاد ، وها هي اليوم خنساؤنا اللبنانية الجنوبية تدفع بلفذتي كبدها إلى الهيجاء ليكونا وقود الجهاد في جنوب لبنا ن (الشريط الحدودي المحاذي لفلسطين السليبة) .
الأم : لقد سمعت يا أحبابي أن الجهاد في فلسطيننا الحبيبة أصبح فرض عين .
إبراهيم : أجل يا أماه وإني أحب الجهاد في سبيل الله .
موسى : وإن الجهاد في بيل الله في جنوبنا اللبناني المحتل أيضا ً مقدس لأن إسرائيل تحتله منذ أكثر من خمسة عشرة سنة وأصبح اليوم لزاما ً على كل مسلم تحريره .
الأم : لقد سميتكما باسم نبيين من أولي العزم لكي -- ------- أثرهما في الدعوة والجهاد في سبيل الله .
موسى : نعم الإسمان اسمينا ونعمت الأم أنت وياليت كل الأمهات يكن مثلك .
إبراهيم : لماذا لا تستبقين أخي موسى الأصغر عندك لخدمتك يا أماه .
موسى : بل أقترح أن تبقى أنت يا إبراهيم وأخوض أنا غمار المعارك في سبيل الله .
الأم : بل ستذهبان معا ً والله معي ولن يترني عملي .
موسى : مكبا ً على يدي أمه يقبلها : الحمد لله الذي جعل في أمة محمد أما ً مثلك .
الأم : وقد فاضت عيناها بالدمع : اذهبا على بركة الله ، وفقكما الله لتحرير أراضي الوطن من رجس يهود .
الولدان معا ً : ادعي الله لنا يا أماه أن يرزقنا الشهادة في سبيله فإن دعائك مستجاب إن شاء الله .
الأم : إني أدعو لكما ذلك كل يوم في الأسحار .
الولدان : سننطلق غدا ً في الصباح الباكر للإنضمام إلى معسكر المجاهدين .زز
الأم : رافقتكما الشهادة .
لم يستطع إبراهيم أن ينام ليلته تلك لفرط فرحتة بإذن أمه له بالجهاد في سبيل الله بل ودفعها له للشهادة ، فهو الذي كان يتهييب سؤال أمه عن ذلك ولم يكن ليتوقع من أمه هذه الروح الجهادية ؛ ولأنه قلق تلك الليلة فلم يستطع النوم حدثته نفسه أن يخبر أصدقائه في درب الجهاد عن هذا الخبر السار ولكنه تذكر أن مكالمته ربما تكون مرصودة سيما وأن رفاقه أيضا ً مرصودون فارجأ إخبارهم إلى الصباح .
أما موسى فقد نام قرير العين ورأى فيما يرى النائم أنه التحق بركب الجهاد ودمر دبابة للعدو الإسرائيلي الغاشم . وما أن داعب عيني إبراهيم الكرى قليلا ً حتى أفاق على صوت المؤذن لصلاة القيام وهو يقول حي على خير العمل فهب نشيطا ً لأداء صلاة قيام الليل ثم جلس يدعو أن يرزقه الله الشهادة ويحشره مع النبيين والصديقيين والشهداء وحسن أولئك رفيقا .
وفي الصباح الباكر ودع الأخوان الأم المجاهدة وانطلقا كالسهمين إلى رجالات المقاومة كي يلتحقا بقطار المجاهدين . عُهد إلى إبراهيم مهاجمة الحدود اللبنانية الفلسطنية المحتلة ومناوشة العدو ليلا ً كي يقضي مضجعه ولا يدع السهاد يعرف إلى عينه طريقا ًَ . أما موسى الأصغر فقد أسندت إليه مع كوكبة من المجاهدين مهمة القيام بعمليات استكشافية تمهيدا ً لمجموعة أخرى كي تقوم بتنفيذ عملياتها .
انتظم الأخوان سنوات في سلك المقاومة ، بل الهجوم على العدو الإسرائيلي الباغي وكانا بين الفينة والأخرى يبعثان برسائل مطمئنة إلى أمهما المجاهدة يطمئناها عن أحوالهما .
ومرة وقعت رسالة في أيدي جيش لحد الجنوبي العميل المتواطئ مع العدو الصهيوني فذهبا بها حيث عنوان الأم وهددوها بأن يخربوا البيت عليها إن ظلَّ إبناها في منظومة الجهاد .
ولكن أم إبراهيم لم تأبه لتهديدهم بل ازدادت ثباتا على ثباتها وقالت لهم : أيها الجبناء والخونة يا من تحمون ظهر العدو الإسرائيلي الآثم ، أنتم شر فئة عرفها الوطن،بل أنتم حثالة الأمة،سيندحر العدو يوما ً ماوستُرمون في مزبلة التاريخ خائبين مندحرين. إني لأنصحكم أن تثوبوا إلى رشدكم وتتوبوا من حوبكم وتعودوا إلى الله . فما كان منهم إلا أان ضربوها بأعقاب بنادقهم حتى أُغشي عليها وفروا هاربين .
وذات يوم جاءت جارة أم ابراهيم إلى بيت جارتها حيث دار بينهما الحديث التالي :
أم هانىء :كيف حال شبليك المجاهدين ياأم ابراهيم ؟
أم ابراهيم : لم يصلني منهما أية أخبار منذ شهرين ، وأرجو من الله ان يكونا صامدين .
أم هانىء : لابد وأنهما صامدان ، لكني سمعت قبل يومين عن عملية استشهادية بطولية نفذها المجاهدون ، وقد سقط منهم عدد ممن الشهداء .
أم ابراهيم : أرجو أن يكون ولداي عمادها .
أم هانىء : بالفعل لقد حرص ولداك على الانتقام للإمام الصدر ، رحمه الله .
أم ابراهيم : بل ووصية الإمام الخميني ( قدس الله سره) الذي دعا الشباب للاستشهاد في سبيل الله.
أم هانىء :وكذلك وصية الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله حفظه الله .
أم ابراهيم : نرجو من الله أن ينفعنا بهم ، فنحن لسنا بأحسن من الحسين رضي الله عن الذي ضحى بروحه فداءً لدينه .
أم هانىء : ولسنا نحن النسوة بأقل من زينب رضي الله عنها التي قالت : ربِّ هذا الحسين قرباننا في سبيلك فتقبله منا ، واحتسبت أخاها عند الله .
أم ابراهيم : مالك تتحدثين اليوم كثيرا عن الشهادة ؟ لعل في جعبتك خبرا ً .
أم هانىء :تنحنحت قليلا ً، ثم أردفت الصحيح أن خبرا ما حدث ، ولكنني أخشى أن يحزنك ؛ لذا أردت التمهيد له .
أام ابراهيم :إذا كان الخبر يتعلr بولديَّ أو بأحدهما ، فلا تترددي أن تخبريني عنه .
أم هانىء : بل بابراهيم تحديدا ً .
أم ابراهيم : أرجو أن يكون إن كان قُتل مقبلا لامدبرا .
أم هانىء : بل كان موته مشرفا ،فقد كان قائد العملية التي أخبرتك عنها .
أم ابراهيم : الحمد لله الذي شرفني بشهادته ، وأرجو من الله أن يمن على أخيه بالشهادة .
أم هانىء : ما أعظمك من أم .
أم ابراهيم : إذا لم تدفع كل أم ابنهاإلى ساح الوغى ، فمن ذا الذي يحرر الوطن ؟
أم هانىء : كنت متخوفة من إخبارك ، ولكني أضحيت فخورة بك، وسأنشر خبرك بين الأمهات.
أم ابراهيم : حدثي عني الأمهات كي يتشجعن لدفع أولادهن لساحات الجهاد ، وأغفلي اسمي لأني أخاف من السمعة .
أم هانىء : مع كل كلمة تتفوهين بها تزدادين عظمة في عيني .
أم ابراهيم : هذا بعض مافعله أجدادنا يأم هانىء .إن الذي فعلت ُ ليبدو غريبا لحرص الأمهات كلهن أو جلهن على الاحتفاظ بأولادهن وعدم زجهم في معمعة الهيجاء .
أم هانىء : هنيئا لك صبرك ياأم ابرهيم، وإني لأرجو الله أن يجزل لك الثواب .
تقوم أم ابراهيم بتبديل اسمها على جرس الباب فتضع بدل أم ابراهيم حمود ، أم الشهيد ابراهيم حمود .
وتمضي سنتان وموسى يحقق كل يوم انتصارات على العدو الصهيوني البغيض ، ويشارك في كبريات العمليات الجهادية ضد اليهود الملاعين ، وشاء الله أن يقوم موسى بعملية مع ثلة من المجاهدين الأبطال ، يستطيع البعض الانسحاب بعد ان تمت العملية بنجاح واقتدار ، ويستشهد الباقون ،ويُجرح آخرون . كان من بين الذين جرحوا موسى الأخ الأصغر لابراهيم . وينجي الله موسى من الأسر بعد أن طوقته ورفاقه مجموعة من المشاة اليهود ،إذ يستطيع رفاقه أن يضعوه على نقالة لينسحبوا به . ويمضي موسى ثلاثة أيام وجراحاته تغور وتزداد ، فأصبح رفاقه قلقين عليه ،فيقول لهم : لاتقلقوا عليَّ يارفاق سبيل الجهاد، فهذه طريقنا اخترناها بأنفسنا، وإن أنا متُّ فأوصلوا السلام إلى أمي الحبيبة وقولوا لها إن موسى وفَّى بالعهد فلم يمش ِالقهقرى ، وقد حُمل جريحا من بين الأشلاء والدماء ، وقد ألفيناه مقبلا لامدبراً. قولوا لها لقد حقق حلمك بأن تكوني أم الشهيدين ، فإني لاحق بأخي حيث الأحبة محمد وصحبه . قولوا لها قري أعينا ً فأنت التي دفعتنا لنكون وقد الوغى ، وقلت لنا : ‘‘ أرسلكما راجلين ، وأود أن أراكما محمولين . وهأنذا حُملت على نقالة المصابين قبل ثلاثة أيام ، وأرجو أن أُحمل على نقالة الجنة كي تعرج روحي إلى بارئها .
وفجأة يرد موسى السلام دون أن يدخل أحد ، فيعرف من بجواره من صحبه أنه قد دخل ملك الموت ،فيرد عليه السلام جميعهم ، وخلال دقائق يغمض موسى عينيه قريرتين وقد أدى فرض العين . وتصعد روحه الطاهرة إلى بارئها تحملها ثلة من الملائكة .
وتأتي أم هاني وفي فمها خبر جديد ، لكن هذه المرة أصعب من سابقتها فهذا موسى الابن الأصغر يستشهد بعد أخيه ثم إن أم إبراهيم قد ركبتها الأمراض خلال السنتين المنصرمتين ، لذى أخشى أن تصاب بصدمة هذه المرة فمرض السكر والضغط عدوان لدودان للأخبار المفاجئة ، ولكن عليَّ أن أخبرها بطريقة أو بأخرى ... رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي .... آمين آمين وصلى الله على محمد خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين .
أم هانئ : السلام عليك يا أم الشهيد .
أم إبراهيم : وعليك السلام يا أتقى الجارات وأطهرهن .
أم هانئ : إن أخبار المقاومة في الجنوب مشرفة هذه الأيام .
أم إبراهيم : أجل أيتها الجارة الحبيبة ، فأنا أتابعها على التلفاز .
أم هانئ : لكن أخبار هذا الأسبوع كانت حافلة بالانتصارات .
أم إبراهيم : قصي علي يا أم هاني الأخبار السارة فأنت دائما ما تقصين أندر الأخبار .
أم هانئ : لقد هاجم المجاهدون أكثر من موقع للعدو الصهيوني المحتل وغنموا موقعين جديدين في الجنوب اللبناني .
أم إبراهيم : الحمد لله على هذه الأخبار المفرحة التي تبعث على الأمل وترفع معنويات المجاهدين إن شاء الله .
أم هانئ : ولكن الأخبار تحدث عن جريح استشهد في سبيل الله بعد أن قضى ثلاثة أيام وهو ينزف إلى أن منّ الله عليه بالشهادة .
أم إبراهيم : رحمه الله وأسكنه فسيح جناته .
أم هانئ : سمعت عنه أخبارا ً عظيمة يا أم الشهيدين .
أم إبراهيم : ماذا ؟ سمعتك جررت كلمة الشهيد بالياء والنون ، هل استشهد حبيبي موسى ؟
أم هانئ : أجل يا أم إبراهيم لقد أكرمنا الله جميعا ً بشهادته المشرفة .
أم إبراهيم : الحمد لله الذي شرفني بشهادتيِّ ولديَّ الحبيبين الذين لا أملك من حطام الدنيا الفانية غيرهما .
أم هانئ : لكم تزدادين في عينيَّ وقارا ً يوما بعد يوم . ثم ضمتها إلى صدرها وهما تبكيان .
أم إبراهيم : إنه لخبر عظيم أن يكون موسى شهيد عملية الأسبوع المنصرم ، أجل والله لقد كانت عملية فدائية كبيرة .
أم هانئ : أنت الأم الوحيدة في حينا التي شرفها الله بشهادة ولديها .
أم إبراهيم : لقد رأيته في المنام قبل أسبوع يقبل يديَّ ويطلب مني أن أدعو له .
أم هانئ : لقد صدقت رؤياك يا أم إبراهيم .
أم إبراهيم : رحمه الله وأسكنه فسيح جناته فقد كان إبنا ً بارا ً.
أم هانئ :لم يتزوج ابناك وأرجو أن يكون الله عز وجل قد زفَّهما إلى الحور العين .
أم إبراهيم : آمين آمين .
في صبيحة اليوم التالي كتبت الوالدة المكلومة على جرس بيتها : أم الشيدين إبراهيم وموسى .
ألا يـا آل حـمّـود جِـهَـادَ الفَرضِ لِلإسلام دِينَا ً لَـقـد أدَّيـتُمَا فَرضَا ً عَظِيمَا ً فـإبـراهـيم وفـَّـى الله حقا ًَ ومُـوسَـى قَد تََلاه اليَومَ يَترَى شـهِيدَا الثورَةِ العَصمَاءِ فَخرَا ً * * * وأمَّـهُـمـا دَلِـيـلا ً للثكَالَى وقـد ضـمَّت بِوَلدَيها احتِسَابا وتـدعُـوكُـلَّ أم ٍ كَي تُضَحِّي فـفِـيـمَـا لُـهَاتكم لِمَتاع دُنيا فـإن طـلـَّقـتـُم الدُّنيا ثلاثا ً تـنـالوا الأجرَ من ربٍ كريم ٍ فـمـا الـدُّنيا سوى سَقطٍ قليلٍ | سَـلامَـاركِـبـتُـم ذروَة الدِّين لباغِي ضرنا امتـَشـقَ الحُساما لـقـد أرضَيتُما المولَى التزاما بِـنـذر ٍ كـا نَ إلا ً أو ذِمـاما شَـهـيـدَا ً بَاذِلا ً بَرَّا ً عِصَاما وإنَّـهُـمـا على الحّقِّ استَقاما * * * فـقَد أضحَت لِمَن صَبروا إماما لأجـرَ اللهِ رزَّاقـا ً سَـلامـا ًَ بــأمــوالٍ وأولادٍ لِـزامـا وهـذي الـدَّار ما كانَت مقاما؟ فَـقـد أصـبَحتُمُ ناسَا ً عِظاما وتُـمـسـوا بَين أهلِيكم كِراما فـهـذي الضَّجَّةِ الكُبرى عَلام؟ | السَّنامَا