عائد إلى الحياة
عائد إلى الحياة
فاضل السباعي
*عند الصباح دعوه، وعشرات من رفاقه، ليقولوا لهم:
- أنتم.. طلقاء!
وعهدوا إلى حلاقين فقصوا شعورهم وجزّوا لحاهم المسترسلة، فكانت هذه هي المرة الأولى التي تلامس فيها أنامله، بعد زمن طويل، جلدة وجهه دون حائل، وأعطوا كل واحد منهم قميصاً وبنطالاً، ومنحوه دريهمات، ولم يتكرموا بأن يقولوا لهم: مع السلامة.
بدا كل شيء لعينيه جديداً، جميلاً، ومذهلاً أيضاً. والذكريات انتعشت في خاطره كأنما سُكبت عليها قارورة عطر، والأحاسيس ازدادت رهافة فازداد فرحه وسعادته. أيضحك لفكّ أسره، أم يأسى على ما فات من عمره؟ طبيباً كان، متخرجاً، يُزجّ به في السجن، لأنهم اكتشفوا أنه ارتكب، إبّان حداثته، ما يعاقَب عليه. وبلغت بهم النكاية، أنهم -وقد عرفوا ذلك متأخرين- صبروا حتى يوم زواجه، وتركوه مع عروسه في ليلة الزفاف، حتى إذا كان الضحى قرعوا باب بيته: (أنت الدكتور أ.س.)، وسحبوه من باب البيت وهو يلبس منامته! وحكموا عليه بالسجن مدة، ثم بدا أنهم نسوه في السجن أو تناسوه!
عند الظهيرة نقلوهم من سجنهم على تخوم الصحراء، إلى العاصمة، مكدسين في ناقلة عسكرية مثل غنم. وما أزعجهم ذلك مثقال ذرة، لأنهم يعرفون أنهم في طريقهم إلى الحرية، إلى الحياة. وقبل أن يدفعوا بكل واحد منهم إلى الحافلة التي تُقلّه إلى بلده، همسوا:
- إن تفوّه لسانُك بكلمة، وجدتَ نفسك محمولاً إلينا!
مما لاحظه في الحافلة التي أُدخل إليها، أنها جديدة وأنيقة، ومريحة، لا يُسمع لها هديرٌ في الداخل، وهي تتحرّك نحو الشمال، كذاك الذي كان يعهده في "البوسطة".. أشياء كثيرة سوف يراها تغيّرت، ومنها هذه الوجوهُ في الحافلة، العائد أصحابها إلى بلدهم" هل بينهم من يعرفه؟ يريد أن يدخل البلد في هزيع من الليل، لا عين تراه ولا أحد يتعرّف عليه.
عشرة أعوام وشهر، نامها "على جنب واحد" سنتان، على فعل اقترفه وهو ابن خمسة عشر، بأن وزّع منشوراً يحرّض على الإصلاح والتغيير، وهو، بعد ذلك الفعل، كان قد كفّ من تلقاء نفسه، وتابع الدراسة حتى تخرّج طبيباً، واتخذ من إحدى الغرف في بيت الأهل عيادة يمارس فيها مهنته، ولقد ظلّ، وهو في المعتقل، يتساءل عمّا إذا كان يمكن في قوانين الدنيا، أن يعاقَب إنسان بالغ سنّ الرشد، على ما ارتكبه وهو حَدَث، بمثل هذه العقوبة، ثم يُحتفظ به طوال السنوات الباقيات!
الحافلة، الأنيقة، تمضي به نحو البلد، وهو ما زال يتساءل: الوالدان ما حالهما؟ والزوجة لليلة واحدة؟ وأخوه "بدر" الذي تركه يدرس الطب؟
كان في عزلة عن العالم، وكانوا هم، في العالم، معزولين عنه، لم يبلغه أنّ أحداً سأل عنه، وما كان يحق له أن يسأل عن أحد، والمجزرة، التي وقعت في السجن، بعيد سنة من اعتقاله، هل وصل خبرها إلى الناس؟ نحن عرفناها.. سمعنا، في ليلة اشتدّ حرّها، أزيز الرصاص ينهال مثل زخ المطر، توهّمنا، للوهلة الأولى، أن هناك من يقتحم السجن العتيد ليحررونا، وإذا هم رجال من السلطة يحررون أرواحنا من أجسادها لتصعد إلى السماء السابعة، ثم إن الأخبار تسرّبت إلينا، غضبٌ عصف في رأس أحد الكبار، فعبأ ناقلات برجال من عنده، جاؤونا ساعة الفجر ليحصدوا العُزّل في محابسهم المغلقة، انتقاماً! ثم غسلوا أيديهم ومسحوا بزّاتهم مما ارتشق عليها من دماء، وذهبوا.
لاحت له المدينة عن بُعد، تلتمع في فضائها الأضواء، فكأنها نجومٌ في سماء صغيرة تراءى لها أن تُخيّم هناك، هدّأت الحافلة من سرعتها، وهي تنزل منحدرة، فهبط قلبه في أحشائه شوقاً وخوفاً وحنيناً، الوالدان، الزوجة المنكوبة، أخوه "بدر" الأصدقاء، والمعارف.
استقرت الحافلة، تحرّك الركاب، وما تحرك، رآهم يتزاحمون على الرصيف، يلتمس كلّ متاعه، وهو لا متاع له، إلا القميص والبنطال الجديدان الملاصقان لجسده! تسلل، مشى على غير هدى، خُيّل إليه أنه في مدينة منسية، مدينة كانت يوماً ما مدينته، مدينة تنبعث الآن من أغوار الذاكرة مستعيدة حضورها، مدينة مهجورة، مدينة مسكونة، مدينة أشباح مدينة أحلام..
هوذا الشارع الذي كان يقطعه كل يوم وهو في طريقه إلى المدرسة، المكتبة التي كان يشتري منها دفاتره وأقلامه، بيوتُ الأهل والأقارب والأصدقاء، بيوتٌ مرّت عليها يد الزمان، فعفّرت جدرانها وأخلقت بنيانها، ومنها ما أناخته الأيام فنهضت مكانه بناية جديدة.. ذلك ما كان خلال السنين التي انسفحت من ماء شبابه.
هل يلقى الأم، التي كانت تعبئ له الحقيبة بالمآكل، حين يتوجّه إلى العاصمة لمتابعة الدراسة؟
هل يلقى الأب، الذي كان ينفحه في سنوات الدراسة بمصروفاته الشهرية وغير الشهرية؟
وأخوه بدر الذي دخل الطب عندما كان هو يوشك أن يتخرّج، ما فعلت به الأيام؟
والزوجة المنكوبة "ليلى" ابنة خالته، التي كان يتردد على بيتهم ليلقنها دروس العلوم وهي في صف الشهادة الثانوية، في أي حال هي؟ تخرّجت من الجامعة؟ بقيت على العهد؟ وأي عهد.. بعد عشرة أعوام وثمانية وعشرين يوماً؟
هل تراءى لها أن تتحرّر من الزواج؟
أهي على قيد الحياة؟
يا للأسئلة المؤلمة!
والوالدان، وما تلقياه من قسوة الأيام؟
ورفاق الصبا الذين كانوا، عمار، وسميح، ومحمد علي، وهيثم وخالد.. أين وصلوا في الأعمال والأعمار؟
وبائع الحمص والفول؟
وبائع حلاوة الجبن "أبو عبده السلار"؟
والفرّان "فريد أبو مهران"؟
أهم أحياء أم ماتوا؟
دخلوا السجن؟
خرجوا منه؟..
بات الناس عنده إما سجناء وإما طلقاء، إما أحياء وأما أمواتاً!
هوذاك المبنى، الذي يشغل بيتهم طابقاً فيه، لم يتجاوزه الزمن يراه باقياً صامداً! النوافذ مغلقة، والبيت معتم، تلك هي الغرفة التي كان قد اتخذها في البيت عيادة، وفي الغرفة التي تجاورها قضى ليلة الزواج الوحيدة.
اقترب يتملّى النظر، في عتمة الليل، من واجهة المبنى، تلك هي اللافتة التي علّقها، ما تزال في موضعها تحت النافذة، تقرّاها بعينيه: "الدكتور بدر.." اجتاحته رعشة، أخوه حلّ محلّه في العيادة، وحمد الله على أن أخاه بخير، وأنه يمارس عمله.
دخل المبنى، صعد الدرج، متلمّساً الجدران، وقف أمام الباب متهيباً: عشرة أعوام غياباً، سجناً! لمس زرّ الجرس، لم يرد أحد، عاود الكرّة، أيكون البيت قد أمسى عيادة وحسب! عاود، أصاخ، ترامت إلى سمعه حركة في الداخل، وصوت واجف يسأل:
- مين؟
عرف في الصوت أخاه بدر، فتنزلت عليه راحة.
- أنا.. أنا أخوك أكرم!
ولكن الباب لم يفتح، لكأن أخاه بدر يروز الصوت في ذاكرته.
أنشأ يخاطبه بصوت، سمعه هو كأنه آتٍ من خارج الزمن:
- افتح، يا بدر، أنا أخوك أكرم، ما زلت على قيد الحياة، أُطلق سراحي صباح اليوم، الآن وصلت البلد.
وإذا النور يضاء، والباب يفتح، ويظهر أخوه بدر أمامه شاباً مكتمل الرجولة، يأخذه من يده إلى الداخل، يضمّه، متحسساً ظهره، كتفيه، وجهه، رأسه، غير مصدق، يعانقه وهو يحاول أن يكتم بكاءه.
- كأنك بعثت حياً، يا أخي!
- كنت على يقين من أنكم حسبتموني في عداد الأموات!
- الحمد لله على سلامتك يا أخي، سمعنا بخبر تلك المجزرة.. التي..
- الذين قتلوا في تلك الليلة كانوا نزلاء في جناح آخر.
العينان فيه تسألان عن الوالدين؟
- قضت أمي حزناً عليك، بعد سماعها بالمجزرة.. ولحقها أبي.. حزناً عليها وعليك.
ربّاه، كم سببت لأسرتي من المآسي! ودّ لو تطاوعه الدموع.
- وليلى، ابنة الخالة؟
أرسل سؤاله إلى أخيه، ثم وجد نفسه يتوسل إليه:
- أرجوك لا تقل إنها.. ماتت!
- ابنة خالتنا تذكرك بالخير دائماً.. إنها.. إنها تعيش في هذا البيت!
- قل لي إنك تزوجتها، وأنا أكون أكثر سعادة.
- قد تزوجتها يا أخي على سنة الله ورسوله، بعد نبأ المجزرة، وإن لنا أربعة أولاد.
وما وعى إلا وهو يعانق أخاه، والدمع في مقلتيه ما زال مستعصياً:
- وأبشّرك بأن لك، في هذا البيت.. ولد! سميناه "أكرم" كانت ابنة الخالة قد حملت به في ليلة الزفاف.. عمره اليوم تسعة أعوام وأربعة أشهر!!
* * *
تقول الحكاية:
إن الأخ بدر دخل على زوجته أم أولاده الأربعة، وأبلغها.. أبلغها أن رجلاً.. رجلاً حبيباً إلى الأسرة.. قد عاد إلى البيت.. عاد إلى الحياة أيضاً، ولما التقت بابن خالتها عانقها أختاً له، زوجة أخ، وبارك لها كل ما فعلت، وتقول الحكاية أيضاً: إن الأب "أكرم" دخل، سويعة الفجر، على ابنه "أكرم" نائماً في سريره، قال يترجاهم:
- لا توقظوه، دعوا المَلَك، المتنزل من السماء، يحلم! ولأول مرة يبكي، فاضت عيناه بالدموع.
ولما آن له أن يضم ولده إلى صدره، كانت دموعه تغسل وجهه، وتبلل وجه ابنه.. إلا أن الولد –قالوا- لم يبك، وعللوا بأنه كان في حالة من الانبهار والذهول.
* روائي سوري.