هـدية لبحـارة البـر

زياد علي خليل الطويسي

زياد علي خليل الطويسي

[email protected]

حان الأوان لأم حارث أن تتذكر أياما مضت ، تلك الأيام التي بنت بها أحلاما كبرت وكبرت لكنها سرعان ما تلاشت وذابت في بحور من دموع الألم والضيق والضعف والحرمان..كان هذا حالها بعد فقدان زوجها في حرب الخليج الأولى .

تنام النساء كل ليلة ساعات تمتد بعضها إلى ظهر اليوم التالي وأم حارث منشغلة بحياكة الصوف لصنع الألبسة لبعض جاراتها وتهديب المناديل التي يرتديها الرجال فوق رؤوسهم موسم الشتاء مقابل أجر ما ، عدا عن أشغال المنزل ورعاية خمسة أطفال لا يعرف بحال أبيهم إلا رب خلقهم وسواهم وألهم أمهم صبر تربيتهم وإطعامهم وحيدة ، كان ابنها الأكبر حارث في العاشرة من عمره ، نشيط بعض الشيء ، مجتهد في دراسته فهو السند والأمل التي باتت تبني طموحات جديدة على مستقبله بالرغم من عناء ومشقة رعايته.

كان حارث كثير المعارف وأكثرهم ممن يكبروه في السن ، فكان هذا ما جعل الفتى يلم بكل ما حوله من أمور دينية ودنيوية ، عدا عن إطلاعه الواسع على الصحف والمجلات الثقافية والفكرية التي أخذها عن ابن عم أبيه ((حامد)) الذي أصبح أستاذ جامعي فيما بعد ، وكذلك متابعة المستجدات والاهتمام بالشخصية والتعلم من كبار الكتاب كأمثال الفارابي وابن تيميه والجاحظ وغيرهم.. وكان هذا ما اكتسبه من قريب له يدعى ((جاسم)) صديقه المحبوب فيما بعد .

كل هذا ساعد حارث في بناء شخصية جديدة لنفسه كان قوامها الاهتمام بالفكر والثقافة ومحاولة الإبداع في مجال الكتابة..حقاً استطاع الفتى أن يذهل كل من حوله حينما بدأت أقلامه تخط على أوراق تحمل شقاء ومعاناة ودموع أمه أبياته الشعرية الأولى:

- الله أكبر ، هذا كلام حارث!

كانت هذه عبارة من سمعوا منه أشعار عمره الأولى ، فكان حقاً مدعاة فخر لعمه الوحيد ((عبد الله)) ولأمه وأخواله ، فبدأ الاهتمام به من قبل محبيه وخاصة من عمه الذي كان يدعوه للإبداع أكثر فأكثر..بالرغم من هذا إلا أن حارث كان يتعرض للسياسة بعض الشيء خاصة أن المنطقة كانت تعيش فترة دامية من انتفاضة الأقصى ، ولحظات تاريخية من الحرب على العراق ، فكان لحارث صدى شعري مميز في إذاعة المدرسة كل صباح حتى لقبه مدير المدرسة الأستاذ حسين صاحب الفضل الأكبر عليه بشاعر المدرسة ..كان حارث من أوائل الشعراء الذين عبروا عن مشاهد أول ساعة من الحرب على العراق ، فكان من أقواله حينها :

أنباء القصيدة سيئة

وشعب العراق الفريسة

الطائرات تهوي وتغير...

وحمام السلام من الشرق يطير

وعيون بغداد حزينة....

كان هذا النوع من الشعر لحارث يدعو الحساد لممارسة دورهم في التخريب ووضع العوائق في وجهه ، لكن الصبر والعزيمة والتحدي أمور جعلته يثبت ويستمر في مواصلة آدائه.

بجانب مدينة ((تلة عيسى)) التي يسكنها حارث مدينة (( سالان)) كان الساليّون أو أهل سالان يوجهون تهم مزيفة وينشرون إشاعات كاذبة ضد الدكتور سالم رئيس جامعة البحر الأحمر، لأنهم يريدون وضع أحد أبناء سالان رئيساً لها بدلاً من الدكتور سالم ابن ((تلة عيسى)) ، كان لتلك المنشورات التي وزعت من قبل جماعات تخريبية أثر هائل في الأسواق والشوارع والمجالس في المنطقة ، حتى تداولتها بعض الصحف التجارية ، مما دعا أقارب الدكتور سالم للاجتماع مع كبار وشيوخ منطقة تلة عيسى ، وانتهى الاجتماع بقرارات كانت موضع احترام ، لكن دور حارث ابن الخامسة عشر الآن كبيراً من خلال مقال استنكار لهذه الأحداث ، فكان لمقاله احترام كبير من قبل الجميع وخاصة من الدكتور سالم الذي أصبح السند الدائم لحارث خاصة بعدما اكتشف مهارته المتميزة في مجال الكتابة.

لا بدّ أن لهذه المهارات التي يمتلكها حارث دور كبير في تنمية طموحة وبناء مستقبله ، فكان الناس ينظرون إليه نظرة واعدة بمستقل حافل بالإبداع ، فكانت الوعودات تنهال على أبيه الذي عاد فيما بعد مشلول اليدين ضعيف القوى ، فبالرغم من المرض الذي أصابه بعد عودته من غياب طويل إلا أنه كان كبير التواصل مع المجتمع لدرجة جعلته يتغلب على ضعفه الجسمي بقواه النفسية والعقلية والروحية التي كانت ترد كل حاسد يحاول أن يتعرض لحارث بشيء مهما كان ، مع تواصله الدائم مع الطيبين والكبار من أبناء المجتمع وخاصة مع كبيرهم الدكتور سالم رئيس جامعة سالان الذي ساعد أسرة أبا حارث في الكثير من الحاجات ، إلا أن الحاجة الماسة التي تنشدها الأسرة هي مستقبل حارث.

ذات يوم يزور الدكتور سالم وزوجته أسرة أبا حارث للاطمئنان على وضع أبا حارث بعد خروجه من المستشفى ، فيوصيه على مستقبل حارث :

-أبا علي انتبه لحارث وضع مستقبله في أولوية أي خدمة قد تقدمها لنا.

هزّ الدكتور سالم رأسه مطمئناً الجميع أن مستقبل الفتى محفوظ بمعيته ما دام على وجه الأرض.

كان لهذا أثر كبير في نفس الفتى ونفس أمه ، خاصة أن الدكتور سالم كان يكرر عبارة :

أنت مثل أبنائي على مسمع حارث في الكثير من المرات ، فكان لهذه العبارة أثر هائل في دفع معنويات الفتى للمزيد من الإبداع ، فالشعر والنثر والمسرح والدراسة والرياضة أصبحت أشياء مرتبة في حياة حارث إذا خل بشيء منها انعدم التوازن في حياته ، فكان لانعدام التوازن في حياة الفتى أثر هائل في نتيجة الامتحان المدرسي النهائي المؤهل للجامعات ، حصل الفتى على نتيجة جيدة ، لكنها أدنى من نتيجة قبول تخصص ((الإعلام)) الذي يطمح بدراسته ، لكن لزيارة الدكتور سالم ليلة نتيجة الامتحان أثر في إطفاء النار التي تسكن في قلب حارث ، نعم لقد أطفأت هذه النار خاصة أن الدكتور سالم أبدى رضاه بهذه النتيجة ، فهو من الرجال القادرين على إدخال حارث الجامعة التي يريد بالتخصص الذي يريد حسب أقوال..

الإعلام والصحافة كلمتان مرتبطتان ، كان هذا طموح حارث ، لكن منسقي القبول في الجامعات اختاروا له تخصصاً آخر بعيد بعض الشيء عن رغبته بما يتناسب ونتيجته (( اللغة الإنجليزية )) ، لم يبدِ الفتى أي رضى لهذا التخصص ، لأنه يطمح بالإعلام ..يذهب في الموعد المقرر للتنقلات لكن دون أي نتيجة.

هناك صوت من قبل أحد الأشخاص في اللجنة : أنت قرابة الدكتور سالم ! ، اذهب له فهو قادر على إدخالك تخصص الإعلام..يركب الفتى الحافلة للعودة من العاصمة إلى مدينته ((تلة عيسى)) ..بعد سويعات يصل البلدة ، ثمة أصوات تتعالى حوله : ماذا حصل؟

- لا شيء

- اذهب إلى الدكتور سالم.

عبارة تلقيه عليه كل الألسن ، حتى الشقيق الأصغر للدكتور سالم كان هو الآخر يدعوه للاتصال به :

- انقل هذا الرقم وحينما تتصل به قل له : " أنا داخل على روح أبيك" لا تجبن وقل له هذا وسيدخلك تخصص الإعلام مباشرة.

يعود الفتى إلى المنزل ويعبر عن شعوره بالفرحة بدخول التخصص الذي يرغب ، ثمة أفكار تجول في رأسه :

- هل أدخل على روح أبيه حينما أتصل به! ، لا يا حارث لا تكن قاسياً على الرجل .

لحظات ويرفع حارث سماعة الهاتف للاتصال بالدكتور سالم .

- السلام عليكم

- وعليكم السلام

- من يتحدث أم علي

- أهلاً يا حارث

- أعطني عمي سالم من فضلك

- الدكتور سالم : أهلاً يا حارث ، ماذا حصل معك؟

- لم أحصل على قبول بالتخصص الذي أرغب

- وهل نتيجتك تؤهلك لدخول هذا التخصص؟

- لا ...

- إذن صعب جداً ، أي خدمة أخرى

- شكراً لك ، مع السلامة.

لست أدري هل الدكتور سالم لا يستطيع حقاً ؟ أم أن المجتمع قد ظلم هذا الرجل بقوله : يستطيع ، ولست أدري لماذا لم يحاول بطرق أخرى كما حاول الأستاذ جاسم ، ولست أدري لماذا يطلبون من الفتى بدخول الجامعة العسكرية ..يا لها من دموع تنهال من عيني حارث ؛ دموع تحمل كل معاني الضعف والانكسار ، لكن المشكلة تبقى في النتيجة ، ومشكلة النتيجة أن الفتى لا يملك ثمناً للدروس الخصوصية ، وأنه ظلم في تلقيه العلم ، وظلم في إيجاد جو دراسي ، وظلم في نفسه وحاله وغدر وخيانة أبناء جيله..

لكن عمه ((عبد الله)) عازم على التحدي وحارث لحظة بلحظة ، ساعة بساعة ، لو أهلكه التحدي وأفقده كل ما يملك في سبيل حارث ، فهذه العمومة الطيبة التي قد لا يملك مثلها في الدنيا إلا حارث ، ظُلم في كل مكان وعند كل إنسان ، لكنه نُصر بعمه الوحيد ، كأن كل دمعة ، وكل نظرة ، وكل لقمة خبز يملكها عبد الله هدية لحارث ، هدية يبني بها مستقبله كما يريد ، هدية سيكتمل بها طموح حارث ، هدية سيقدمها للأجيال ..للرجال وللحساد ، هديةًَ للطيبين وللأوفياء .. هدية للبحر والبر .. هدية لرجال يطلبون العلم رزقاً ..هدية لنساء يطلبن النور فخراً ..هدية لأصحاب السيادة والسعادة ..هدية لبحارة البـر.