أبخرة ودخان 6
أبخرة ودخان
رقم 6
حسن حوارنة /جدة
الغربة
خرجت من بيتي هذا المساء وأنا افكر بصديقي كمال الذي سافر منذ زمن بعيد وانقطعت أخباره . وسارت بي نحو المقهى أقدام ثلاث. الإنسان له قدمان فأما الثالثة فهي في العقل الباطن حيث سارت بي دون أدري وعرجت يمينا ويسارا وتلكأت أحيانا واسرعت احيانا أخرى حتى وجدتني امام بيت كمال .
الله الله كيف وصلت وكيف تاهت بي الطريق عن المقهى كالمعتاد لا أدري .
كمال هذا سافرلأوروبا طلبا للعمل . يحمل مؤهلات لم تنفعه في بلده .
قرعت الباب علني أجده او اجد والده . وفتحت الباب امرأة عجوز صورة وجهها تشبه كمال, قلت في نفسي لعلها امه . قالت مرحبا من تريد .
تلعثمت ، قلت أهذا بيت كمال قالت نعم . قلت اين هو؟؟
دخلت البيت دون أن تغلق الباب وسرعان ما أتى رجل مسن على عكازه .
قلت أنا صديق كمال . قال تفضل يا ابني اهلا اهلا اهلا اهلا ..
أدهشني كم مرة يكررها .
قال انت من رائحة كمال . ارى وجه كمال في طلعتك .
دخلت البيت بترحاب من أناس كأنني عرفتهم منذ قرون واتيتهم بعد غياب طويل .
قال لي هل أنت صديق ولدي . قلت نعم .
هل أرسل شيئا معك ؟؟
انزلقت بي أسئلته الى نهر مجهول الضفاف .
قلت له أنا أسألك عنه . فهو صديقي وزميلي في الدراسة .
قال ألم تأت من بلجيكا من عنده ؟
قلت أنا لم أغادر بلدي .
إذن كيف تذكرته .
قلت هو صديق طفولتي يا والدي .
وقال مكتئبا حائرا .
يا اخي نحن هنا منذ سنين وحيدان
قلت وما الأمر .
قال نحن غريبان في مسقط رأسينا في بلدنا .
وتسللت زوجته عبر حديثنا وقالت . اف على هذه العيشة .
لملمت دهشتي واستجمعت نفسي لشدة الألم الذي أصابني .
اين ابنهم . سافر للخارج طلبا للعلم او العمل . ولكن أين هو.
لماذا تلهف الأب فرحانا كأني كنت ابنه او قادما من عنده.
سألته متى سافر ؟؟ قال منذ ثلاث سنين ولا نعرف عنه شيئا .
الا يخابركم؟؟
يا ليته ينتظم . فكل عدة شهور يسأل عنا بشكل اوروبي لعين.
قلت وكيف؟؟ قال بحسرة يخاطبنا كأننا اجانب ، هالو داد هالو مام . انا بخير .
لقد فقد كمال هويته فقد اصوله التربوية . ضاع منا ضاع منــا ، وسكت الأب ويا ليته لم يتكلم.
وجاءت أم كمال بكوب من الشاي وقالت اشرب يا ولدي .
نحن وحيدان هنــا يا حسرة يا حسرة .
قلت ماذا تعنين ؟؟
قالت كان لدينا ولدان وبنت واحدة . وبيتنـا ملئ ٌ بالحياة .
تزوجت سلمى وذهبت مع زوجها الى الكويت ، ولا نراها الا كل سنتين عندما تأتي في الإجازة .
. وسافر أحمد للدراسة في أمريكا وتزوج هناك ابنة رجل عربي مغترب .
ما رأيناه منذ ست سنوات . كلما ارسل صور أولاده الآربعة ،اموت جنونا بالنظر اليهم واقبلهم وجوههم .
اخرجت ظرفا فيه هذه الصور وبينما كنت انظر للصور، كانت أم كمال تمسح دموعها وتعطي منديلا ورقيا لزوجها .
حرارة الكوب اقل من حرارة الموقف الذي احترقت فيه.
ودخلت جارتها فجأة . ونهضت أم كمال مرحبة بها ثم اسرعت قائلة . هذه مشكلتها اكبر .
قلت وما هي ؟؟
انبرت الجارة وقالت . انا عندي ولد وحيد سافر للدراسة في فرنسا ،وهو كثير التردد على المساجد ولا أدري لماذا اتهموه بالإرهاب وبالقاعدة . والله ما يعرف شئيا عنهم.وسلوكه هنا بين المدرسة والبيت والمسجد، الله يرضى عليه ويفك أسره . انا وحيدة هنا
قلت يا عمتي لعله انزلق مع ....!!! قالت أبدا .ليس من الذين تستهويهم بنات اوروبا.ابن أختي ضيع دراسته ولحق باللهو والمسخرة . ولا تعرف أختي اي شئ عنه .دائما تبكي او تكلم صورته وتناديه تعال الى حضن امك. دعك من أحضان المومسات .
سأزوجك أحلى الطاهرات هنا . وكثيرا ما تنطوي على نفسها وتقول الله يهديك ليتني لم ارسلك ليتني لم ألدك .
وطويت نفسي وابتلعت لساني وحاولت تبريد النار التي اشتعلت في كياني . آه ليتني لم أتذكر كمال .
ودعت الجميع ولكن ابا كمال قال أنت تعرف انجليزي ؟ قلت نعم . قال خذ رقم هاتفه ورقم الجامعة وإذا كان لديك صديق هناك لعله يعرف عنه شيئا ؟ لا أراك الله ما تكره.أنا أريد ان اراه قبل أن اموت ارجوك افعل وابذ ل الجهد اليس كمال صديقك.؟
قالت الجارة وانا اتمنى أن ارى اولادي كلهم على سفرتي يأكلون سويا ولو لساعة واحدة ثم أموت مرتاحة .
يا للصاعقة التي هوت علي من أحوال هؤلاء .
ذهبت راجعا الى المقهى بائسا وحاولت أن أستلقي على الأرض تحت الشجرة الحنون ولكن الأرض لفظتني وقرصتني قم قم.
اين نحن من الزمن الماضي . من الأسر التي كانت تعيش في البلدة الواحدة بترابط اجتماعي.
زمننا الحاضر جعل الجيل الذي نعيش تحت ظله باكيا حيرانا.
قلت يا نفسي يا عقلي يا ذاكرتي هل من الأصدقاء من سافر الى بلجيكا وهل من أحد..لكنني سمعت الرفض من كل جزء منهم و من روحي أيضا.ناداني عمار قلم أجب وغادرت المقهى هاجرا فنجاني الحبيب .
اريد أن ابحث عن كمال في اي مكان سوف أسال كل الأصدقاء الذين عرفوه سابقا.ما اتعس الحياة الحاضرة . كل امرء منغلق على نفسه يخشى الآخرين. ما ذا لو كان الإنسان مفتوح القلب لا السر يعيش على بساط الصراحة والوجدان الحي.
ما الذي أبعد كمال وجعله يغرق في مستنقعات غربية غريبة. يقتلع جذور اصوله ليعيش معلقا على اغصان وهمية سرعان ما تلقيه على ارض الانعدام.تذكرت فجأة صديقنا المشاغب ذا الصوت العالي في أي حديث حتى لو كان همسا . إنه حسام الشاطر
(لقب اطلقته عليه لادعائه الشطارة في كل مناسبة) اطلقت لذاكرتي العنان هاتفته بالهاتف المحمول لم يرد ،
لا أعرف هاتف بيته (وهذه ظاهرة جديدة –الهاتف المحمول اصبح هوية ثانية)
ضقت ذرعا نسيت بيته ولعله انتقل لغيره .لا، لا يمكن ، إن البيت ملك ابيه .
لم اصرف سوى دقائق حتى سمعت صوته من خلفي ويده على كتفى . ايها الهارب الهاجر.
أهي الأرواح ام النفوس تكلم بعضها بخواطر خارجة عن المألوف.
تعانقنا تعاتبنا تصافحنا تشاتمنا .كل الكلام كان حلوا وكان سيستمر طويلا ،لولا صوته الجهوري الذي جمع علينا الناس .
عدت به الى المقهى مهددا ومتوعدا. قلت لا تسأل حتى نصل.
وفي المقهى سألته هل يعرف عن كمال شيئا . قال بلهجة الواثق – وهل تعرف انت ؟؟
سكت لساني وانفتحت عيني على أمر غريب . كيف هذا؟ فقال لا تسرح بعينيك حول المقهى أنا أعرف صديقا له في بلجيكا
وسوف أوافيك بالحال . أخذ هاتفي وقال الو يا عبدو اين أنت . ...
بعد الكالمة التي طالت . قال أن عبد الحميد يعرفه وهو عنده الآن، فاخذت الهاتف وقلت لصديقه . أعطني كمال او دعه يكلمني .
سألته كثيرا وقرعت أذنيه بعتاب عن أبويه . قال انني مشغول جدا بإعداد دراسة المشروع لأحصل على الماجستير.
قلت وأبويك . قال ما شأنك الآن . قلت له افٍ لك . هل تتناسى ان أن ...
قال لا تعتب كثيرا .
قلت تعال فورا فأبواك بشوق حارق . يا ولد انهما وحيدان وهاتفك السنوي يزيدهما ألما .
وطالت المكالمة ولكنني كنت حادا جدا . ثم ما لبث ان لانت لهجته وبدأ يعدني أنه سيحاول يعد اسبوعين.
قلت له عيد الأضحى على الأبواب لا تنسى.
عدت الى فنجاني معاتبا وحسام الشاطر امطرني بأنه يمن علي بذلك ولن يرضى بأقل من العشاء هذه الليلة .
في اليوم التالي زرت ابويه وزففت البشرى . ففرحــا بدموع بلورية القطرات نارية الاندفاع . وقالا الحمد لله
ولكن امرأة عجوز دخلت وكأنها على موعد معي. قالت يا بني اتعرف أحدا يستأجر غرفة عندي . انا لا املك المصروف الكافي
لمعيشتي وولدى تائه لا يرسل الي اي قرش .قلت وهو ضائع بين بنات اوروبا . قالت نعم ويا ليتني لم ألده.
كيف لي أن أفعل وماذا اقول . قلت اين بيتك لأرى الغرفة . قادتني فورا ولكن نقدتها بعض النقود ولم أدخل قائلا سوف
أسال اي مكتب عقاري .
الطاحون الدائرة في العصر الحالي تطحن الجيل الكهل أسى ولوعة وفقرا .
وسلم علينا جار آخر قائلا يا ام حسن اهذا المتسأجر قالت لا . ولكنها انبرت بكلمات سريعة . هذا جارنا مثلنا . ولده
تشاجر في نقاش مع شخص لا يعرفه فدس له تهمة وهو الآن غائب لا نعرف عنه شيئاً.
تضاءلت جدا تهاويت وأنا افكر فيهم.
أردت الانصراف، ولكن أبا كمال أخذ بيدي وقال تعال معي لنزور هاتين العجوزين الساكنتين في غرفة علوية من سقف
بيت خرب. سألته ابعيد البيت قال لا.
دخلنا فإذا بالعجوزين تنهضان على عكازين ملتويتين . مرحبا مرحبا.
انحنيت وأمسكت بالعكازين وأجسلتهما برفق .
الحمد لله أتانا زائر.
قلت وما الأمر
قالتا بصوت متهدج مكسور الجوانب متقطع الأوصال، لم يدخل علينا أحد منذ عام.ولدي احمد لم أره منذ سنة وقالت
الأخرى بنتي لم تعرف عني شيئا منذ سنة . نحن ...
لم أجد دموعا في عيني فقد جف دمي أو كاد يتجمد.
قلت أين احمد قالت في القرية المجاورة لهذه المدينة المهجورة .
يا عمتي المدن المهجورة مدن أثرية مهدمة.
قالت كل واحد يهجر الآخر حتى لو كان اباه أو أخاه.أو أمه.المدن بالسكان لا بالبنيان.
وأين ابنة زميلتك . قالت الأخرى هي تعيش مع زوجها في القرية البعيدة . ولا تأتيني إلا كل عام على العيد.
ولولا جارنا هذا لمتنا من الجوع والوحدة.
تركت شيئا يسيرا مما كان في جيبى وأخذت حسرتي معي مستلهما حلا او جوابا.
ما هذا الزمن . أكلما ابحرت بالناس سفن العمر في ابعاد الشيخوخة كلما ذاقوا الهوان والنسيان .
زرنا يعد ذلك ابا حمزة في المقهى القريب ورحب بنا . داهمتني دهشة قاتلة ، انبرى ابو حمزة يتحدث بنفس
الموضوع قائلا – العيد على الأبواب كل عام وانت بخير . لا أرك الله مكروهـا . قال بعد ذلك.
مضت الأيام البسيطة تمشي على بساط الأمل لكل من ابي أحمد وأبي حمزة بلقاء الأولاد في العيد.
اديت صلاة العيد وقضيت وقتا استعرض فيه زملاء الشيخوخة وكلهم يصافح ويعانق ويبارك.
وبما أن بيتي قريب للمسجد فقد امتلأ بالمهنئين. ودارت الخادمة بالقهوة والحلويات . ما احلى الجمع وما
اروع قهوة العيد والمهنئين.
انصرف الجميع ودخلت غرفة النوم لأستلقي قليلا . ولكن جرس الباب قرع . فنهضت
متثاقلا لا راغبا ، وكأن شيئا ما يشدني بعيدا عن الباب. ولكن ما ان قلت من؟ حتى سمعت صوت ابي كمال
يقول تعال معي الى ابي حمزة لنؤدي فريضة العيد . قلت وهل هي فريضة ؟. قال الحب بين الأهل والجيران فريضة .
دخلنا البيت ولكن وجه ابي حمزة كان شاحبا . قلت خيرا إن شاء الله .
قال تعرف أن لدي ولدا وبنتا لا غير . الولد يسكن على بعد ساعة بسيارته وابنتي على بعد ساعة إلا ربعا بسيارتها أيضا.
على فكرة ما ألطف زيارتيهما لي مرات عديدة ، وتقبيلهما الأيادي واستعطاف الأم بأن أساعدهما بثمن السيارتين .
قلت لهما أنتما حصاد عمري وثمرة جهادي ، سوف أدفع لكما الأقساط الست ألأولى من كل سيارة ، ايعجبكما هذا؟ انحنيا
شاكرين بقبلات حارة على وجنتي ووجنيتي امهما .
قلت لزوجتي العيد على الأبواب وسوف يزورنا الأولاد صباح العيد وسوف أطلب منهما الذهاب في اليوم التالي لأحدى قرى الاصطياف فنحن المسنون بحاجة الى استجمام هادئ .ألا يحق لي وقد دفعت لهما ما دفعت.؟؟
رن جرس الهاتف قبل دخولكما بقليل وكان ولدي الذي اعتذر قائلا لقد قررنا السفر بإجازة مع العيال كل عام وأنت والوالدة بخير
ولم يطلب امه على الهاتف.
ثم رن الهاتف مرة أخرى واسرع فقال من؟
وتحسر مرة أخرى قائلا أتدري من على الهاتف قلت من ؟: هي ابنتي قالت كل عام وانتم بخير ، يا بابا زوجي سيذهب للضيعة
وانما معه . قبلاتي لك و لأمي .
التفت الى أبي كمال وقلت له ماذا عن مهاجر بلجيكا . تنهد وقال نفس الشئ اعتذر وقال هاي داد هام ماما هابي عيد.
استأذنت خارجا عائدا لبيتي وفي يدي قلبي المجروح أجره جرا ، فقدأبى أن يمشي على أرض هذا الزمن الغادر.
جاءت زوجتي بفنجان قهوتي المعتاد فأخذته بأصابع مرتجفة وبفكر مذهول ضائع. امتلأ الصحن بالقهوة
فقررت أن اضعه على الطاولة الصغيرة القريبة من ركبتي . وقع الفنجان مني وانسكبت القهوة الحارة على ثوبي الأبيض وأحرقت ركبتي .
لقد اصبح هذا الجيل القديم جيل المسنين ، غريبا حتى بين الأهل وألأولاد.
غادرت البيت فورا وسكبت دموعي في سلة ودخلت سوق المسنين مناديا بأعلى صوتي من يشتري هذه السلة.