دائرة اللوم
نعيم الغول
سحب نفسا عميقا من سيجارته، وتحجرت حدقتا عينيه على منظر بعيد لم يستطع من حوله أن يروه معه. مع الدخان الرمادي المنبعث من فمه جاءت كلماته تقطر حيرة:
" لا أستطيع أن ألوم ذلك الشرطي الذي دخل الى المقهى، ووقف بالقرب من طاولة صاحبها، وتفرس بوجه ينطق بالحزم وبخطورة ما جاء من أجله في الوجوه المكبة على أوراق الشدة أو النرجيلات أو الغارقة بوحول النهار الذي ارتحل منذ ساعات قليلة. ولا ألومه حين اقترب من الطاولة التي كنت أجلس إليها في مثال هذا الركن المنزوي تماما في مثل هذه الأمسية. لا من الصعب أن ألومه حين شدني من ياقة قميصي، وأنهضني وهو يقول:" محمود خميس؟ إننا نبحث عنك منذ يومين. تعال معي."
من يلوم شرطيا يؤدي واجبه إذا صفعك أمام الجميع واقتادك أمامه وقبضته تدق ظهرك بين الصفعة والركلة؟ لا يا أصدقائي سيكون ذلك من الظلم الكبير."
ساد الصمت فيما عامت كلماته في أدمغتهم محاولة الاستقرار في منطقة الفهم الكامل.
تخلص أحدهم من وجع الفهم والتفكير وقرقر بنرجيلته. سال آخر وهو يحدق في تلك الرعشات المتلاحقة بالقرب من عين محدثه محمود خميس:" كيف لا تلومه وقد اقتادك دون أن يقول شيئا عن سبب اعتقالك؟"
توقفت الارتعاشات حين اختلست شفتاه ابتسامة صغيرة بدت كشرخ في جدار:
" لن تلومه لأنه مأمور بالا يقول شيئا. هنا لا أحد يقرأ الحقوق على أحد"
علق صاحب النارجيلة:" حتى المحامي خريج الحقوق لا يقرأ الحقوق."
علق آخر:" المحامي يقرأ حقه عليك فقط."
ضحكوا ليخفوا الفقاعات التي بدأت تتصاعد في أمعائهم كاشفة عن قرحات مزمنة. تابع محمود خميس:" لا، أقول بجد.. بعد أن اقتادني خارج المقهى قذف بي داخل سيارة كانت تنتظر، وبسرعة وجدت الشرطي الجالس داخلها يمسك بيدي ويقيدهما."
- ألم تسأل لما أخذوك؟
- بالطبع سألت ولكني سمعت كلمة واحدة
- نحن أسفون مجرد اشتباه أو على أقل تقدير : "يتعرف في المركز"؟؟
- لا قالوا : اخرس.
سمر نظراته على أحدهم . طالت النظرة قليلا فتنحنح الآخر ونظر في اتجاه آخر.
" في المركز ركلني عريف النظارة في مؤخرتي، وأغلق علي الباب بعد أن اطمأن أنني اصطدمت بسطل مليء بالبول. لا أستطيع أن ألوم العريف فقد قال لي أدخل قبل ذلك لكني وقفت وقلت له إن من حقي أن اعرف ما يحدث لي. اعتقد أن هذا الكلام يكفي ليطير عقل أي شخص حليم ، فما بالك بعريف مسكين مهمته فتح النظارة وإغلاقها ثم يأتيه من يقول له حقي و"زفتي". لا . هذا أيضا لا يلام"
كان الاهتمام قد احتل محاجر عيونهم لدرجة انهم لم يسمحوا لها أن ترمش. بينما أشعل محمود سيجارة جديدة من تلك التي انطفأت.
" لكن لحظات الخوف والانتظار لم تدم. حقيقة يا إخوان لم اشعر بسعادة قدر ما سعدت تلك اللحظة التي فتح فيها العريف الباب ونادى اسمي. فرحت حتى إنني صافحت زملاء النظارة اللذين لم اعرف أسماءهم بعد، ولم اعرف قصصهم، ولم يعرفوا قصتي، ولكني مع هذا بدأت بمصافحتهم مودعا بسعادة غامرة . كدت أن أصافح العشرة الملتصقين كركاب حافلات النقل العام لدرجة انك تستطيع أن تعرف أن كان الواحد منهم قد أزال اللوز أم لا.
لكن العريف جذبني بشدة وصاح بصوت مدو: "لسه بدري" .
لكن عصافير السعادة لم تطر إلا عندما حشروني في غرفة التحقيق وسألوني:" أين المسروقات؟"
مرة سمعت شخصا يصف شيئا اسمه الهلع لكني عرفته حين مات لساني في فمي وهبط قلبي وأحسست به بين رجلي. صرخت بدهشة :
" أية مسروقات يا سيدي؟ والله لا أعرف شيئا عما تتكلمون".
بسرعة تبادلوا النظرات وابتسموا. قال ضابط بنجمتين:" لقد حلف. لقد حلف."
رد شرطي آخر التصقت بذراعه ثلاث شرائط: "أنا سمعته سيدي . اسمع "وله" ما دمت حلفت فآنت كذاب. الآن عليك أن تخلق المسروقات، وتعترف عن كل جماعتك، وعن التجار الذين وزعت عليهم المسروقات. جماعتك اعترفوا عليك."
أنا لا أستطيع أن ألوم الضابط والوكيل حين جمعوا كل ما يستطيعون من قوة عضلات وسماكة أسلاك كهرباء و بدءوا بالانتقال ملمتر ملمتر ضربا على جسمي كأنهم قوات تحالف تحرر بلدا من بلدان محور الشر . كيف ألومهم وقد أصررت بأنني برئ. أتعرفون ما القصة يا إخوان؟ أخي يعمل في أحد البنوك. أخي الأكبر مروان. وهو مدير فرع الآن. لم يرض عن تركي للمدرسة مبكرا ولا عن عملي تارة "كونترول" باص، وأخرى صبي قهوة، وتارة امضي أوقاتي نائما بعد سهرة طويلة على التلفزيون. فدبر لي قرض باص صغير لتوزيع البضائع على تجار المفرق. وبدأت أدور على تجار الجملة والمصانع آخذ بضاعة وأوزعها. وتعرفت يوما على أحد الموزعين الذي قال انه يعرف مصنعا يستطيع أن يعطيني بضائع بأرخص من هذه بكثير، وعلي أن أوزعها على تجار المفرق، والربح كبير ومضمون. ودلني على المكان وكان "هنجرا" كبيرا. وبدأت أتعامل معهم. وعرفت من التحقيق انهم لصوص يسرقون البضائع، ويعيدون بيعها عن طريق موزعين صغار مثلي. وحين ألقي القبض عليهم لم يعترفوا بان لا دخل لي بالأمر بل قالوا إني شريك لهم.
رغم أنني ضربت ضربا يهد الجبال هدا إلا أنني لا ألوم الضابط والوكيل، إذ أمامهم اعتراف أفراد عصابة على شخص بأنه منهم. وهذا الشخص ينكر. لو كنتم مكانهم هل تضعون احتمالا بان أفراد العصابة كاذبون؟ هل ستقولون الكلام الفاشل :" المتهم برئ حتى تثبت إدانته؟" هل ستخرفون بتخاريف منظمات الرفق بالإنسان وتقولوا هذا إنسان ولا يجوز تعذيبه وانتزاع الاعتراف منه بأية صورة من الصور؟ لو كنتم مكانهم هل ستذهبون وتتعبون أنفسكم وتتحرون عن ماضي هذا الشخص وتتأكدوا من براءته؟ أم تتعبون الطريق الأسهل والأسرع والأضمن والأعقل وهو الضرب المفضي فقط للاعتراف؟
سال أحدهم :" وهل اعترفت؟"
شخر من أنفه: " طبعا اعترفت، وبدأت أعطيهم أسماء ذات اليمين وذات الشمال.
فحولوني الى المدعي العام. سأذكره بخير ما حييت. لقد رأى آثار التعذيب علي، ويبدو أنه تألم كثيرا لحالي. أتعلمون يا شباب ؟ ما أعظم إنسانية الانسان حين يكون في منصب كبير ويتألم مع أخيه الانسان .. مع إنسان حقير الشأن مثلي، ويأمر بإعادتي الى النظارة حتى تشفى الكدمات والجروح والقروح. يا لهذا المدعي العام الطيب! لو رأيتموه وهو واقف أمام القاضي يصور الوطن خاليا من أمثالي. كم كرهت نفسي وقتئذ وشعرت بأنني وصمة عار في جبين الوطن. هل سمعتم بشخص اسمه أحمد شوقي؟ أنا لا أعرف أحدا قال مثل أحمد شوقي شيئا جميلا في الوطن حتى سمعت ذلك المدعي العام. يا إخوان حب الوطن مؤثر جدا عند من طبقوا القانون علي، مع هذا لا أفهم لماذا ما يزال الوطن بحاجة الى الكثير من التقدم رغم وجود كل هذا الحب في قلب ذلك الشرطي والوكيل والعريف والضابط والمدعي العام؟ صدقوني أنا لا ألومهم فهناك أوامر الحاكم الإداري ينبغي عليهم تنفيذها. الأوامر واضحة : لا رافة ولا شفقة مع المشتبه به محمود خميس حتى يعترف. وهل تظنون أنني ألوم المحافظ لا قدر الله ؟ ألا يتبع هو أيضا أوامر الوزير والوزير أيضا يطبق القانون والقانون يقول بان للحاكم الإداري أن يفعل ما يراه مناسبا لحفظ الامن والنظام وممتلكات الناس. وهذا ما فعلوه معي. ومع المجموعة السافلة التي جرت رجلي في القضية. وقد نظف الوطن مني مدة سبعة أعوام أصدرها القاضي، وقد رأيت وجهه وهو ينطق بالحكم. كان كوجه شخص وجد جرذا ضخما قذرا في فراشه. حين نظر الى أحسست أنني ذلك الجرذ. فعقب قائلا: "لو أن القانون جعل العقوبة الاعدام " فعصا" لارتاح ضميري أكثر."
وأنا لن احلف حتى لا تقولوا كما قالوا في المركز : قالوا للحرامي احلف.." أتظنون أنني ألوم القاضي حين لم يقبل ادعاء المحامي بأن اعترافي انتزع انتزاعا وقدم تقريرا طبيا يشهد بان آثار الجروح والقروح تدل على أنها حديثة العهد. بصراحة المحامون في واد والمدعي العام والشرطة والقانون في واد آخر. المحامي يا إخوان "غائب طوشة". ولهذا لا ألومه.
قال أحدهم وقد بدا غيظه واضحا على وجهه: "سبع سنوات في السجن وتعذيب وبهدلة ثم لا تلوم أحدا؟"
قال وهو يسحب آخر نفس من آخر سيجارة:" بلى ، ألوم .... ألوم ابن الكلب الذي سألوه عندما استعصت ولادتي:" إما زوجتك وإما الجنين"...