خلف قضبان الحضارة

لبنى ياسين

[email protected]

ظلال قاتمة تلقي عتمتها على شظايا منعطفات الروح,وتختنق الآمال على حافة فلسفة لا شأن لي بها, ألملم بعثرة الذات عن أزقة الوهم, فأحظى ببعثرة اكبر,تتلاشى أحلامي كخيوط دخان في ليلة عاصفة,تتمزق على حدود الأفق,ويبدو كل شئ صعبا حتى ثمالة الوجع,فتطبق الدنيا كف اليأس على أنفاسي في محاولة لاقتلاع نفسي الأخير من بين ضلوعي, ويبتلعني غضب أحمق..أتقيأ ظله على ملامحي لتصبح أكثر اكفهرارا....لكن لا...لن تمزقـني عواصفهم مهما أرعدت.

كل يوم أمر بذات الطقوس, وتنغلق تلك الطقوس على روحي, ويغمرني شعور بأنني لن أتحمل يوما آخر, لكني لا البث أن أعود إلى هدوئي, كلما اقتربت من تلك البوابة,وشعرت بمئات العيون تتربص بي, تحمل في طياتها الشماتة والسخرية, وربما حمل بعضها نوعا من التعاطف أو الإشفاق, تلك الحراسة الملفقة على فضيلة وهمية, تغتال إنسانيتي كل يوم, حين ينقض أصحابها علي ومن معي بضراوة, لينتزعوا- كما يقولون- مجرد شال عن رأسنا, ولا افهم إن كان فعلا (مجرد شال) لمَ يعطونه مثل تلك الأهمية, ثم يعودون ليقولوا انه رمز ديني, وكأن الكون ضاق على اتساعه, وخلت ساحاته من كل معضلة – لا حروب ولا مجاعات , لا كوارث, أو فقر- لا شئ مطلقا يستحق القلق إلا حجابنا.

سورونا تماما,؟ أحاطوا بآمالنا وطموحاتنا وأودعوها سجن الخيبة, لا مهرب لأي محجبة إلا بانتقاء احد الطريقين..إما نزع الحجاب, أو الانكفاء في المنزل في عزلة تقـتل إنسانية المرأة, فحتى فرص العمل تستنكف عن توظيف المحجبات..لا لشئ ألا ارتداء الحجاب... ولا افهم كيف يكون مقياس العطاء في أي عمل هو الحجاب والدين, وليس الشهادة والكفاءة والمثابرة, لا ادري كيف يقيس السلوك الحضاري قدرة الإنسان على العطاء , دون أن يضع كفاءته في الميزان, ولا افهم كيف يكون لمن هي اقل كفاءة من أختي, إضافة إلى كونها مدمنة على الكحول,أولوية في العمل أكثر من أختي المتفوقة الخلوقة, لمجرد أنها لا ترتدي حجابا, أي عدل هذا ؟؟ أكاد أتمزق ألما وأنا أرى طبيبة متميزة مثلها تقبع بين أربعة جدران ضحية حرب على الحجاب خصوصا والإسلام عموما, دون أن ينظر إلى  تلك الأخلاق العالية التي تميز فتاة كأختي, بأنها نتاج نفس الثقافة التي أنتجت الحجاب.

في مدرستي, كنت اشعر بنظرات الاستغراب والاستهزاء أحيانا من البعض, لكنني لم أكن أبالي, ليس بالقدر الذي يحطمني على الأقل, كنت واثقة بان اجتهادي وسلوكياتي ستفسح مجالا لاحترامي شاءوا أم أبوا, وذلك ما حصل ...كنا أنا وصديقاتي المحجبات بزّينا المحتشم وسلوكنا المنضبط مثار إعجاب مبطن, قـلة من بـدا ان بيننا وبينهم جدار...ارتفع وطال حتى غدا جبلا من جليد.

ورغم اني كنت أكثر حظا من قريبتي التي رفضت إدارة مدرستها رفضا قاطعا التعامل مع أي بديل مخفف للحجاب, فكان الخيار إما انتزاعه بشكل كامل أو البقاء في المنزل, بعكس مدير مدرستي, والتي تشغل مساحة صفوفها على اختلافها عدد من المحجبات ,ذلك انه ابتكر حلا لقانون منع الحجاب وضعنا في زاوية سهلت علينا البقاء في المدرسة, كان حله بمنتهى البساطة القبول بوشاح يوضع على الطريقة الغربية التي تعتمد الموضة, واشترط أن لا يخفي الوشاح جبيننا أو أذنينا ليـبدو فعلا وشاحاً ينتمي إلى متتبعات الصيحات الحديثة في الأزياء.

لم تمانع إحدانا..ولم ستمانع وهي تعلم أن هذا هو أقصى ما يمكن الحصول عليه باستثناء بقائها في المنزل دون شهادة تذكر, ومنذ ذلك اليوم ونحن على غرار بقية المسلمات في بقية المنشآت الحكومية في فرنسا, نخضع لتفتيش يومي نبتدئ به صباحنا...إجراء يقول لنا : صباح الخير أيها الإسلام...انك اليوم مستهدف حتى بأدق تفاصيلك.وأكاد اصرخ من قلبي : ما شأنكم بحجاب لا صوت له ولا رائحة إلى هذه الدرجة, لكنني ابتلع لساني وأنا أتذكر الخيار الثاني...الحرمان من التعليم.

كالعادة اليوم اقترب من بوابة المدرسة, فابدأ في انتزاع حجابي, وتحذو صديقاتي حذوي بهدوء, يلوح من بعيد شبح مدير المدرسة ومعاونه, يقفان لاستقبالنا بتفتيشهم اليومي, ليتهم يفتشون عن المخدرات بنفس الدقة التي يفتشون بها تفاصيل حجاب, وككل يوم تعودنا فيه على جدال بينه وبين أذنـي  ياسمين التي تحاول جهدها أن تغطي تفاصيلها في محاولة يائسة لابقاء ما يشبه الحجاب على الأعضاء المطلوب تحجيـبها.

يتوجه المدير بكلامه إلى ياسمين واشعر أن بعينيها غضباً قد يقتلع المدرسة من مكانها, يبادرها: ياسمين...هل علي أن أقول لك كل يوم أنني أريد أن أرى أذنيك ؟ هيا أخرجيهما...ستسمعين بشكل أفضل هكذا بعد ظهورهما...ماذا أرى ؟؟ بدلت اللون الأسود أخيرا ؟؟ خيرا فعلت..فأنت تعلمين أن اللون الأسود يعتبر رمزا دينيا , تكفهر ملامح ياسمين وتتقلص, ويبدو واضحا اندفاع الدموع من عينيها , تحاول ضبط إيقاع أنفاسها لكنها لا تفلح, ولا يبدي المدير- الذي اعتاد الشجار معها اثر كل تلك الشكاوى من أستاذ التاريخ المتطرف الذي تعمد استفزازها عدة مرات- أي اكتراث بغضبها, فيشير بإصبعه إلى جبينها قائلا: ارفعيه عن جبهتك...أريد أن أراها بوضوح, ويأتي صوت من الخلف: هيا دعينا نرى جبهتك أيتها الفاتنة.

لم تكن ياسمين فاتنة حقا, لكنها كانت شعلة من الذكاء, لم ترض يوما بأقل من أعلى علامة في كل المدرسة لأية مــادة من موادها, كانت من ذلك النوع الجدي الصارم الذي يضع المستقبل إزاء عينيه فلا يفلته أبدا.

وبالرغم من ذلك فقد فوجئنا كلنا في اليوم التالي بقرار طردها من المدرسة اثر نقاش مع أستاذ التاريخ, أدلى بعده الأخير بدلوه قائلا: أن بكاءها الحار عند انتزاع  الشال عن رأسها, ونقاشها الذي يحمل أفكارا منظمة ومرتبة للدفاع عن الحجاب...يشيران بشدة إلى  علاقتها بجهة متطرفة.