الاجتياح

يسري الغول

[email protected]

غزة تنفجر .

الجدران تتصدع ، تتهاوى .

على الجميع إخلاء المواقع فوراً ...  

على الجميع إخلاء المواقع فوراً .

الاجتياح بات وشيكاً .

القذائف تنفجر ، تطير في سماء مدقعة بحداد قاحل ، الهزيع الأول من الليل يجوس في الأعماق ثقيلاً . انفجارات تئن و ينتهي الصمت. يبزغ نهار مع ألوان نيران تضطرم . يمسي الليل بركاناً مضرجاً بالدماء ، عويل طويل لا ينتهي ، الطائرات تحلق هائمة على أنفاس الثوار ، تطلق صاروخاً واحداً و ينتهي الليل ، الظلام .

لوحة تتوشح في صورة رجل يتدثر التراب صلداً ، الخريف يتوزع في أحضان النسوة المتلفعات حكايا الهجرة الأولى ، تتقدم الزوجة و في يدها مصباحاً خافت الضوء ، تضعه أعلى الرف الممتد في غرفتهم الصغيرة ، تسنده بجوار أطباق متسخة . تهمس إلى جارها بحذر :

يبدو أننا الليلة سنبيت في العراء .

تصمت ، تبكي و الوجه يغور في رأس الابن الضال بمتاهات الجرح القديم ، كان يجرى بين أحضانها ، ترفعه ، تخفضه كصاروخ يتقلب في الأرض الباهتة ، يخبرها بحلمه عندما يكبر يكبر ، يبتسم إليها ، ينحني ، يقبل قدميها ثم يوغل في البعيد ، يتحطم كأيقونة مصلوبة ، يتمنطق حزام أبيه . يضع عطراً على جسده ، تمسد الأم شعر رأسه الناعم ، تصلي من أجله ، تدعو له بالنجاة من بقايا الموت العظيم ، يقبل يديها مرات و مرات ، يتيه فيهما ، تتشقق الأوداج ، حشرجات متقطعة ينفثها الأب العجوز الذي يتقدم نحوه باكياً ، يسأله :

أستتركنا لهذه الوحدة القاتمة ؟

يتفجر الدمع من مقلتيهما جميعاً و الأم ترنو ببصرها في جبهة الإيمان المترعرع بقلب صبيها الرجل . يغادرهم ، يصفع الريح بوجهه ، يجري ، ينطلق كطائرة تحلق في سماء الريح ، ينبطح أرضاً و عند أول منخفض يستند بسلاحه ، يخرج رصاصة ، ينادي بالآخرين أمامه ، يشرخون جدار الصمت بقذائفهم التائهة ، يطلقون رصاصاتهم القليلة ، يفجرون ، يزرعون الأرض ألغاماً ثم يغادرون ، و عندما يصلون أطراف الحدود المجهدة عناء الزمن  ينتزعه الأرق ، الجفاف ، القحط الذي يتربع في مخيلته ، يبحثون عن الماء جميعاً ، يلهثون ككلاب ضالة ، يهذون ، يسيرون حتى تتفطر الأقدام ألماً . و قبل أن يلجوا بوابة الوطن الجديد تكون قد ابتلعتهم العتمة ، الظلام الذي يعتري العجوز في غرفتها الواطئة . تغمض جفنيها ، يتشنج الجسد عند أطراف الذاكرة ، القذائف تطير ، ترتطم بالأرض ، تصطدم بالحجارة ، تهمس المرأة إلى بعلها بجنون :

-   علينا أن نخرج الآن بعيداً عن المخيم .

هدوء أثير يحتوي قلبيهما ، يبتسم الزوج ، يضحك ، يرتفع صوته بالضحك ، جنون يتسرب مع الريح إلى الأجساد ، تدمع عيناه .

هنا هيروشيما ، نجزاكي جديدة .

هناك بيروت 82 ، هنا حمام الشط .

أيها المهاجرون ، أشعلوا نيران أجسادكم في لهب العدو ، التحموا .

 يحدق العجوز في السماء الكالحة أمام شباكهم الواطئ . كل شيء أمامه غريب . خلاء يتجلى كوردة الدم المتلفعة حصائد الجياع ، يحدق في البيوت المهجورة التي لاحت في لحظة خاطفة مع انقشاع الضباب كقمامة متناثرة ، يتوسد لحافه ، يرتعش ، و أمام الشباك تهوي القنبلة .

تنبيه إلى جميع مستمعينا داخل المخيم ، و خارجه .

عليكم إخلاء المواقع فوراً ، و دون تردد .

مرة أخرى ، على جميع المواطنين إخلاء البيوت فوراً ، و دون تردد ... .

يغفو الرجل دون أن يأبه لتوسلات الزوجة ، يبصر ابنه جميلاً ، ضخماً ، يتقدم نحوه باكياً ، يقبل قدميه ، يطلب مسامحته ، يدعوه لزيارة بيته الجديد ، يمسك بيد أبيه و الأم تطأطئ رأسها موافقة ، يتقدم ، يبزغ وجهه ساطعاً في ظلامهم كنور سراج وهاج . الأم تنام و الأب يستيقظ ، يمد يديه ، يشعر بأن كفاه تلامس روح الابن . طمأنينة تحتوي قلبه ، يهم بالنهوض و عصاه القديمة تنفلت كثقب مجدوع . يوقظ الزوجة باهتة الظل ، يرتفعان إلى أعلى . السقف يتطاول غائراً في العين ، و قبل أن يتوسدا سجادتهم المتعفنة تكون القذيفة قد وصلت شباكهم الصدئ و اخترقت  مسامات التراب لتفجر معها آخر الأغوار في أرض جدباء .