الشاي
الشاي
علي الحديثي
آه ..... صرخ بأعلى صوته حين كوته النار فجأة ،فراح يقفز من مكان لآخر يحاول التخلص أو التخفيف من هذا الكيّ ، وكان في قفزه يبحث عن مخرج يفرّ منه ، وبعد قليل شعر بنور ضئيل يصل إليه ، رفع رأسه فرأى فتحة ذات ثقوب كثيرة ، حاول الخروج كلّه فلم يستطع ، وبعد جهد جهيد لم يجد حلاًّ إلاّ أن يقطّع نفسه على عدد وحجم هذه الثقوب ، فالمرء لا يمكن له أن ينجو من شئ ما لم يعامل المقابل على مقدار حجمه وعقله .
استطاع الفرار من هذه النار التي كوته مرغماً ، ليقفز في إناء ، كان يراه في أول دخوله أنه إناء يسع الكون الذي كان فيه ، فظلّ ينزل فيه شيئاً فشيئاً فشعر أنه يكبر في هذا الإناء الذي لم يعد يسعه بعدما كان يسع الكون كما يظن .
هاهو الآن يستقرّ في الإناء ، وبعد ؟ ماذا يفعل ؟ أيبقى هكذا دون أن يجد من يشربه ؟! و أسيُشرَب ؟ أم سيُسكَب ؟ أم سيُعاد إلى الأرض التي فرّ منها ؟ وهو في تفكيره ذاك أحسّ بشئ عملاق يحمله ، وكأنه محمول على مركبة فضائية ذات خمسة أجنحة ... طارت به وهي تتمايل به هيّناً مخافة أن يهوي على الأرض أو يسقط على قدم أحدهم فتحرقه ، وفي كلتا الحالتين لايُخاف عليه ، وإنما يُخاف من عواقب السقوط .
وأخيراً استقرّت مركبته الفضائية ذات الخمسة أجنحة على أرض مربعة واسعة لعينيه بعض الشئ ، أخذ يقلّب عينيه فيها فإذا بها خالية لا أحد فيها ، فرفع رأسه عالياً واستنشق بقوة ، فلا أحد ينافسه في مملكته الجديدة ، فليس كما كان في أرضه السابقة ، حينما كان أينما يولّي وجهه يجد أشخاصا لا يختلفون عنه في شئ .. أمّا هنا فلا نار تكويه ... ولا صاحب ينازعه ... ولا ضيق في المكان ... ولا ثقوب تقطّعه ... فالمرء ملك حينما يكون وحده .......
أخذ صاحبنا يخطّط ويهندس في أرضه الجديدة ، وبينما هو في أحلامه شعر بسحابة عظيمة تحجب النور عنه ... فزّ من أحلامه ... فإذا بالمركبة تهوي عليه مسرعة ، فراح يصرخ ويستغيث بأعلى صوته ... انتبه ... احذر ... ستؤلمني ... ستسكبني على الأرض ..........
فجأة ، توقفت المركبة ، لكنها قريبة منه ، فإذا بها واقفة على عمود خارج من أعماقه ، فأيّاً كانت الظروف عصيبة فعليك بعقلك الكامن في أعماقك .
شعر صاحبنا بالارتياح ، وأخذ يقبّل العمود الذي أنقذه من هذا الوحش الجبار ،وهو يثني عليه وينذر له النذور ، ماسحاً عرق جبينه ... متأفّفاً ...
ولم يكد يخرج من حلمه حتى أحسّ بهزة عظيمة زلزلت كيانه من أعلاه إلى أسفله ومن أسفله إلى أعلاه ، كأن تياراً كهربائياً سرى في جسده ، فإذا بالعود الذي عانقه وقبّله ونذر له النذور قبل قليل يُحدث هذه الضجّة ، فجعل ـ بعد ذاك التقبيل والتعظيم ـ يصرخ به ويركله بقدمه تارة ، وتارة بيده ، بل حتى بقدمه إن اضطر الأمر ... وهكذا الإنسان مابين لحظة وأُخرى تراه ينقلب من حالة إلى نقيضها ، فمصلحة الـ( أنا ) فوق كلّ شئ ، وحين توقّف العمود شعر صاحبنا بدوار في رأسه ، فأسلم نفسه للنوم ، شاعراً بالتعب والغرور، ففضلاً عن مملكته الجديدة فقد حلّت به قوة هائلة جعلته وحده يُوقف هذا العمود ، ولا غروَ في ذلك فكم من امرئ يغترّ بعمل غيره .
وها هو يستيقظ من نومه،فإذا بترابه الحلو الجميل اللون قد اختفى من تحته،فأصابه الذعر والاندهاش،حاول أن يبحث عنه،ولكن بلا جدوى،فقرّر الرجوع إلى النوم وهو يحدث نفسه لعلي أجده في نومي مثلما فقدته في نومي،وما أُولئك الذين يحلمون بالمجد الشامخ وهم على فراش النوم.