لَـفـّة سوداء

لَـفـّة سوداء

نعيم الغول

[email protected]

فتح "راجي" زجاج نافذة الشاحنة لعل القليل من الهواء البارد يدخل . التفت الى مساعده وقال:

" افتح الزجاج يا محمد. جو الغور خنقنا"

فتح "محمد" الزجاج فدخل هواء حار لكنه خفف قليلا من حرارة حجرة القيادة. وضع يده على الغير وأحس بحرارته الشديدة . أعطى الغيار الثقيل الاول ليعطي عزما اكبر للشاحنة في هذا الجزء الصاعد من الشارع. كان قد اقترب من منعطف. هتف بضيق:

" أف. ألا يكفي حرارة الجو وحرارة الموتور والطلوع الصعب والآن منعطف مخفي.؟"

كان المساعد مشغولا عنه بالنظر الى خارج السيارة الى طرف الشارع الترابي الملاصق لسفح الجبل. أمعن النظر وبرقت في عينيه ومضة عجب. هتف:

"ترى ما يكون ذلك الشيء الأسود الملفوف؟

أجاب راجي :" أي شي؟ وأين؟"- هناك عند طرف الشارع. انظر.

نظر راجي فوجد شيئا طويلا ملفوفا كاسطوانة على الأرض.

- لم لا نتوقف . نبرد السيارة ونلقي نظرة.

نزلا وترك المحرك دائرا افرغ بعض الماء على "الروديتر" . واقتربا من اللفة السوداء. كان كتلة طويلة ملفوفة بشكل أسطواني ومغلق طرفاها. وكان هناك لاصق على الطرف الأعلى ولاصق آخر على الطرف الأدنى. قال المساعد:

"لنفتحها وننظر ما فيها ."

قال راجي : اتركها لا شأن لنا بها.

-ربما تكون سجادة. ليتها تكون سجادة. والله نفسي تطلب سجادة للبيت بدلا من الحصيرة البلاستيكية المقطعة.

-اتركها ربما يكون هذا الشيء وقع من سيارة وسيعودون لأخذه. لاحق لنا فيه مهما يكن.

-يا رجل لا أحد يرانا وحين يعودون لأخذه سنكون في المدينة بعد أن ننزل شحنة البطيخ .

-يا ابن الناس قلت شيء ليس لنا و ..

لكن الجملة قطعتها أصوات عواء عالية ووجدا فجأة ان عددا كبيرا من سيارات الشرطة تحيط بهما . نزل عدد منهم واشهروا مسدساتهم وبنادقهم. واقترب شرطيان وقيدوهما. اقترب رجل على كتفه نجمتان وتاج وقال:

-إذن سرقتم الجثة من مكان الجريمة وجئتما بها لتغيرا مكانها.

-2-

كان قائد المركز الأمني في حالة غضب شديد. كانت الجثة لأحد أبناء عمومته من قبيلة السوابعة التي تقطن المنطقة منذ مئات السنين. وزاد غضبه حين عرف أن الشخصين اللذين قبض عليهما من القبيلة ذاتها. فهذا يعني أن أحد أبناء عمومته هو القاتل.

قال بغيظ: هل اعترفا؟

رد نائبه: لا يا سيدي. يصران على القول انهما لا يعرفان شيئا عن الموضوع وانهما توقفا لتبريد الشاحنة وإلقاء نظرة فقط.

هز رأسه يمينا ويسارا : هذا الكلام نسمعه من كل المجرمين . يظنان انهما أذكى من الشرطة ز هل يظنان انهما سينجوان بالكذب من العدالة. استعمل كل الأساليب الممكنة ليعترفا.

قال النائب : سيدي هل تريد أن ترى السائق ابن عمك؟ لعله يخجل منك ويعترف؟

صرخ قائد المركز بصوت عال: ليس ابن عمي . ابن عمي لا يقتل أحدا فما بالك إن كان ابن عمه هو القتيل؟ لن أراه. نفذ ما أمرتك به.

-حاضر سيدي.

-3-

كان الخبر قد سرى في أنحاء المركز بين رجال الشرطة. كان جلهم من أبناء المنطقة. كان اشد ما أغضبهم قرابة القتيل بالمتهمين. وقد شعر كل منهم أن فعلا شنيعا كهذا يجب أن يلقى العقاب الشديد، ولهذا تطوعوا في "كسب الأجر والثواب" من المجرمين. وكان على رأسهم العريف مشاور الذي أسرع الى النظارة وطلب من عريف النظارة أن يدخله. حين دخل سأل:

من منكم السوابعة؟

رد راجي : أنا ؟

فعاجله بلكمة شقت شفته: "تقتل ولد عمك يا كلب؟ وتابع سؤاله بركلة في بطنه ثم بكوعه على ظهره."

صرخ راجي بصوت ممتزج بالألم : والله لم نقتله ولا نعرف أن ما في اللفة قتيل.

رد مشاور بوحشية: اخرس .ووجه لكمة الى بطنه قائلا: ان لم تعترفا بالجريمة سنسلمكما الى أهل القتيل. انهم في الخارج يهددون ويتوعدون. آهل القتيل أولاد عمك يا ناقص. لماذا قتلته؟ بماذا كنت تطمع؟ أكانت عينك على صبية يريدها هو أيضا فأزحته من الطريق؟ أم دينا طالبك به فقتلته؟ هيا اعترف. ملعون أبو التراب والقروش.

ضرب حتى ارتفع صوت لهاثه فخرج بعد عدة دقائق دخل شرطي آخر. وكان متجهما أيضا . أمرهما بالنهوض وهدأ من غيظه بعدد من الصفعات. وخرج. تكرر الأمر مع عدد آخر منهم يدخلون يصفعون يشتمون ثم يخرجون. مشاور وحده كان لا يكتفي بالصفع والخروج السريع بل يضيف إليه الركل والشتم والتهديد ويظل على هذا الحال حتى يتعب.

-4-

كانت عقرب الساعة الصغير يتوسط الحادية عشرة والثانية عشرة فيما كان العقرب الكبير يستعد لابتلاع الدقيقة الخامسة والعشرين. لا أصوات حوله تخرج من داخل المركز ولا خارجه خلا أصوات سيارات تمر في فترات زمنية تصل الى عشر دقائق. من بعيد كانت أصوات صراصير الليل فقط هي التي تعلن عن أن الحياة موجودة في مكان ما غير نبضات قلبه المتسارعة ولهاثه الذي بدأ يخفت بعد أخر وجبه أذاقها للمجرمين.

كان مشاور قد لاحظ الاستغراب في عيون زملائه لاندفاعه وحماسه في تعذيب المتهمين وانتزاع اعتراف سريع منهما. ولم تفته غمزة أحدهم حين قال إن من ينتزع الاعتراف سينال "شريطة". ستة عشر عاما في سلك الشرطة، وما يزال بشريطتين. لكنه يعرف أن السبب لم يكمن الشرائط أو النجوم ولا التيجان. هناك شيء في هذه القضية يذكره بما حدث حين كان طفلا بين أبيه وعمه. كحكايات كثيرة عن الإرث وطمع القوي في الضعيف او الشاطر بالحمار نبتت حكاية عمه وأبيه. كان عمه قد نجح في تسجيل كل شئ باسمه بطريقة ما جعلت من غير الممكن اللجوء الى القانون. فلم يجد أبوه وسيلة سوى قتل عمه ليشفي وجع روحه ووضعه في لفة سوداء ورماه بالوادي. واكتشف الأمر وشنق أبوه وأجليت أمه وصغارها الى منطقة أخرى. وكان يسمع كثيرا عن العار الذي لحقهم من فعلة أبيه. وكان يصحو ليلا على بكاء أمه ويسمعها تشهق بالكلمات :" لو شاورني لقلت له ملعون أبو التراب والقروش". أواه كم تمنى لو أن والده كان حيا ليلومه على ما فعل.

بينه وبين نفسه اعترف مشاور أن راجي كان يشبه أباه.

كان ذلك حين أحس بلسعة جمرة السيجارة العاشرة على طرف إصبعه ولمح طيف رجل يقترب من البوابة الرئيسية للمركز وصوت الحارس المناوب يناديه: عريف مشاور . عريف مشاور.

-5-

باب الزنزانة الحديدي زعق كمريض موجوع بعد منتصف الليل، فهب راجي ومساعده فزعين والتصقا بعضهما ببعض ليخفيا اكبر مساحة من جسديهما قد تتعرض للضرب من جديد. وقف العريف مشاور في منتصف الزنزانة وابتسامة واسعة على شفتيه أقلقت راجي الذي كان قد سمع منذ ساعة جلبة في المركز دامت ربع ساعة ثم همدت . لا بد أن شيئا ما قد حدث مما جعل العريف مشاور يأتي بكل هذا الفرح على وجهه . لا بد العريف حصل على ما يريد وسيرسل به الى المشنقة. عندها أحس بالمرارة تسري في جوانب فمه والغيظ يحرق أحشاءه. المرارة لأنه سيموت دون ذنب، والغيظ لأنه لا يعرف سر حقد العريف مشاور عليه مع انه لم يره في حياته.

انقض العريف مشاور عليه فتكور راجي دون وعي محاولا تجنب لكمة أو ركلة لكن راجي احتضنه وعانقه وقبله أيضا : "أبشرك يا سوابعة. بشارة "

صرخ راجي بخوف: "بشارة أنكم ستشنقونني. والله بشارة سأرتاح من هذا التعذيب؟"

رد العريف ضاحكا: لا يا رجل. جاء شخص واعترف بكل شيء. جماعة قتلوا ابن عمك واختلفوا على المال الذي أخذوه منه فجاء أحدهم واعترف عليهم. مبارك. أريد منك البشارة.

ولم يدر راجي من أين أتته القوة حين قفز على مشاور ولم يقم عنه إلا حين وقف بينهما رجل عرف فيه قائد المركز. كان هذا يهزه ويقول : اتركه يا رجل كي لا تتهم بضرب أحد رجال الامن. أنا ابن عمك ، أما لي شان عندك؟

رد راجي وهو يلهث: شأنك على رأسي، لكن قل لي ماذا افعل إن رأيت لفة سوداء مرة ثانية؟