الكلام المباح

الكلام المباح

قصة: فاضل السباعي

كان على يقين من أنهم سيُلقون القبض عليه فور أن تطأ قدماه أرض المطار. ولكنهم –يا للغرابة- "لم يفعلوها" ضربوا على الحاسوب.فارتسم على شاشته الصغيرة اسمه بالخط الثلث. ختموا أوراقه، وردّوها إليه باسمين. ودخل دون أن يلتفت إلى حيث تجمّع القادمون حول "البساط الدائم"، فمتاعه كلّه هو ما احتوته الحقيبة الصغيرة المعلقة على كتفه. لم يفتحها رجل الجمارك، الذي بدا مهذّباً جداً، وأشار له بيده أن: عدت؟ فادخل مرحباً بك في وطنك الحبيب!

في صالة الاستقبال كانوا في انتظاره. عناق ودموع. عشر سنين نفيا اختيارياً. عيونهم تتلفّت، فلا تزال ثمة خشية من أن يطبقوا على حبيبهم العائد.

ارتمت الطفلة في أحضانه:

-أنا لم أرك إلا في الصّور.

قال أخوها:

-ولم نسمع صوتك إلا عبر المكالمات الهاتفية والإذاعات و"الفضائيات".

لم يُصدقوا أنهم يرونه لحماً ودماً، وأنه وصل إليهم عبر مطار العاصمة في وضح النهار...لكأنهم في حلم!

أعلنها:

-جئت، يا أحبّائي، لأموت في الوطن، ولو في إحدى زنزاناته. لقد أضناني البعاد، حتى اشتقتُ الموت.

طوال الليل وهو يتحدّث. وما كان حديثه إلا ليزيد في مخاوف الذين عذّبهم الشوق إليه. دينه الانتقاد: الكشف عن الأخطاء التي استشرت وتعرية الفساد الذي عمّ.

توسل إليه ابنه، الذي بات يناهزه طولاً:

-أبتاه! ابق لنا، بعد الحرمان الذي عشناه دهراً طويلاً.

-عُدّوني رحلت، واكتفوا بالذكرى، يا أولاد. إن سكت الذين وهبتهم العناية القدرة على القول والفعل، فمن ذا الذي يفتّح العيون على العيوب، ويدفع الأذى عن الوطن؟!

-يا أخيّاه! ألا ترى أن هناك إصلاحاً ما؟

-ما أنا على يقين منه أن الفساد قد تراكم طبقات بعضها فوق بعض.

-يا زوجاه! ألم تر أنهم أتاحوا لنا أن يتحقق حلمنا بهذه الجلسة الهنيّة؟

-هذا يُملي عليّ أن أرى ما بعد ذلك.

ويرنّ جرس الهاتف.

-بيت المفكّر الأستاذ "عبد الصّبور"؟

-من المتكلّم؟

هنا فرع "السبع سبعات". يكون طيباً منك، يا سيّدتي، إذا كان لي أن أبلغ الأستاذ على الهاتف رسالة قوامها سبع كلمات!

همستْ:

-إنهم يطلبونك لفرع "السبع سبعات"... رسالة من سبع كلمات.. يخيل إلي أني في حلم!

قال بصوت جهير:

-نعم، أنا المواطن عبد الصّبور، العائد ليلة أمس إلى الوطن.. من أنت؟من تكون؟

-أنا الجنرال ابن عبّاد" رئيس فرع "السبع سبعات"!

-وماذا يريد منّي الجنرال ابن عبّاد، الأندلسي، كما يخيل إليّ؟

-"نرجو حضوركم إلينا في الوقت الذي يناسبكم"!

سبع كلمات بالعدد... وانقطعت المكالمة.

***

ولم يدعوه يذهب وحيداً.

دخلوا المبنى دون أن يسألهم أحد الحرّاس عن "إذن دخول".

 ولّما تبيّن ضابط بنجمتين أن الواقف أمامه إن هو إلا "الأستاذ عبد الصّبور"، الذي دعاه الجنرال إليه قبل قليل، هبّ واقفاً ليؤدّي له التحية، ثمّ يسرف في عبارات الترحيب، وهو ينسلّ إلى مكتب رئيسه.

-رئيس الفرع في انتظارك، يا سيّدي.

وجد هذا الرجل،"الجنرال ابن عبّاد"، ضئيل الجسم وذا عينين متّقدتين غائرتين في وجه أسمر ليمونيّ.

   نهض يصافحه:

-كل ما تُصرّح به، يا أستاذ عبد الصّبور،"يؤرْشف" عندنا.

-يا له من جهد تبذلونه في هذا الخصوص!

-إن عندنا رجالاً قد كُلّفوا القيام بهذه المتابعات.

-سمعنا أن نصف الشعب منوط به مراقبة النصف الآخر.

-ذلك من أجل حماية الوطن من أعدائه.

-أنت من "بني عبّاد"؟

حملق الجنرال:

-ولمَ هذا السؤال؟

-اسمح لي، يا سيّدي الجنرال ابن عبّاد، أن أحدّثك حديثاً شائقاً، عن أن في التاريخنا سمّياً لك:"ابن عبّاد"، اسمه الكامل :"المعتضد بن عبّاد" كان يحكم"إشبيلية" في زمن "ملوك الطوائف". تقول الروايات التاريخية: إن الرجل كان يقتل خصومه ويجعل جماجمهم في خزائن في قصره، وقد كتب بيده على كل جمجمة اسم صاحبها، وكان يخرجها كلما عنّ له، ليتمتّع بمشاهدتها! ذات يوم غضب ابن عبّاد، في مجلس له، على صديق من كبار مثقّفي عصره، فأمر من حوله بأن يقتلوه. ولما كان هؤلاء يعرفون أن الرجل صديق لسيّدهم، وأنه بمنزلة الأستاذ له، فقد أحجموا عن تنفيذ الأمر بأن فرّوا من المجلس، فقام هو بقتل صديقه بيديه... أسألك، يا سيّدي الجنرال: هل أنت من سُلالة أسرة ذلك الرجل؟

تململ الجنرال:

-أظنّ... أنّ الصلة بيننا... مقطوعة....ولكن (فطن الجنرال ابن عبّاد) إني دعوتك لأبلغك أنك متّهم بـ"العيب بالذات الثورية"!

-تهمة لا أنكرها!

-فأنت موقوف منذ الساعة، لتقدّم إلى "محكمة الأمن الأيديولوجي".

-أظن أن زنزانة في "معتقل المنلا حسنين" تنتظرني!

واقتيد، غير مكبّل اليدين، إلى سيارة تنتظر في الفناء. وجدها-يا للغرابة-فارهة،ومكيّفة، وقد تكون مصفّحة فلا يخترقها الرصاص، ولم تتجه به إلى حيث "معتقل المُنلا حسنين" الذي يعرفه جيّداً بل ساروا بها غرباً، فأتاحوا له –وهو غير معصوب العينين- أن يتمتع بمشاهدة الضواحي الحديثة، التي كثيراً ما سمع أنّ المسؤولين، الذين بنوها بـ"عرق الجبين"، يسكنونها سعداء: دروبٌ ملتفّة، ساحات وسيعة، فيلات باذخة، تحيط بكل منها حديقة غنّاء.

وإلى إحداها دخلوا به.

-هذا طابق "للاستقبال"، وفيه قاعة المكتبة، والطابق العلوي غرف للنوم والراحة، وفي السفلي المطبخ وغرفة الطعام، ومبيت الحرس.

تراءى له أن يسألهم:

-أهي مكتبة عامرة؟

-تعاينها بنفسك. وإذا افتقدت فيها شيئاً تريده أتينا لك به. وهناك خط هاتفي.

-فيه "الصفر"؟

-الصفران... تستطيع أن تتصل به إلى أنحاء العالم.

-و"الفاتورة".

-يُسددّها "السبع سبعات". وهنا خط الفاكس. وبريد إلكتروني. وإن شئت بعثنا إليك سكرتيرة.

وبيّنوا له، بصراحة لم يتوقّعها، أن الأملاك التي جروا على مصادرتها من الناس، منها ما كان يعود إلى رجال "العهد البائد"، ومنها ما يخصّ " المتراجعين". إن هذه الفيلا هي لواحد من قياديّي الأمس، تراجع متخادلاً، حين ظن أن "وعيه قد عاد إليه"،وهو الآن قابع في "المنلا حسنين"!

-نعتقد أنك ستكون سعيداً بمطالعة ما فيها من مصنّفات غير مسموح بتداولها؟

-أهو قريبٌ موعد الجلسة الأولى؟

-سنحاول ألاّ يكون بعيداً.

-لا تبذلوا كبير جهد في هذا الخصوص!

مسح بنظره أرفف المكتبة: كتب قيّمة، مصادر أصليّة، موسوعات: بلغة، باثنتين، بثلاث لغات، إن لم يكن، هذا الذي هو فيه، حلماً، أتراها "مكيدة" ينسجون خيوطها بدم بارد: رفاهية وبلهنية عيش، ثم يحتالون عليه بالسم، ويُعلنون: قد مات حتف أنفه، ويمنعون تشريح جثته!

جلس وراء المكتب الفخم: دفاتر من ورق أبيض، ووردي، وبزرقة السماء. أدوات كتابة مختلفات الأشكال والألوان، وإذن، فإن ساكن البيت-بعد ثقافته- كان كاتباً أو شاعراً، يا له من "تراجعي" قد امتلأ معرفة وذوقاً!

قرع الجرس. فأقبل عليه واحد من الحرّاس. ضرب بكعب حذائه الأرض، مؤديا التحية بأعرق تقاليدها العسكرية:

-حاضر سيّدي.

لا،لا... إن عليه أن يبدّد هذا الحلم الكاذب!

تناول قلماً. بدأ بكتابة العنوان:"لن أدعهم يخدعونني" بل: "أنا لا أُشترى بالنعيم الزائل"، أو لماذا لا يسميها: "الحرية أغلى"؟

ولما فرغ من كتابة المقالة، بعد وقت لم يعرف مداه، رأى الفتى ما زال منتصباً أمامه. ضحك بينه وبين نفسه: هذه أول مرة أكتب فيها مقالة عنيفة في ظل رجل سلطة، وإن كان صغيراً!

دعي إلى الطعام...لله درّهم:ويجيدون إعداد الموائد! خدمة "خمس نجوم"!

في المكتبة أرسل المقالة، عبر الفاكس، إلى إحدى جرائد المهجر. لسوف يستغربون: من عاصمة بلده، التي وصل إليها في العشيّة، يكتب لهم هذه المقالة اللاذعة... أيّ جديد حصل!

تصفح كتابا، قلّب أوراق موسوعة... وفجأة تذكّر:

-ألو!أجل، إني بخير. لم يزجّوا بي في "معتقل المنلا حسنين"، كالمرة السابقة،بل جعلوني في فيلا أنيقة، قد صادروها من واحد من المنشقين المتراجعين، فيها من وسائل الراحة، ومن الكتب، ومن أدوات الكتابة وأجهزة الإرسال والاستقبال، ما يعجز عقل عن تصوّره.

-غير معقول!

-كتبت مقالة نارية، بعثت بها الساعة إلى المهجر، وسوف أشرع بكتابة أخرى!

-ألن تكف عن ذلك؟

-قالوا إن لي أن أستقبل الأهل والزوار... العنوان: "فيلات المسئولين الأكابر"، غربيّ العاصمة، رقم الفيلا "77"، فيها سبع غُرف، كلّه سبعات... أقيم فيها بمفردي. قالوا أستطيع، أيضاً، أن أستضيف أفراد أسرتي فيبيتوا عندي!

-يا "للتصحيح" الذي حصل!

-ينبغي التأكد.

كتب، وكتب...

تكلّم، عبر الهاتف، إلى كلّ من يود أن يتحدث إليهم في أرجاء المعمورة.

تنقل بين "الفضائيات"... وزار"المواقع" عبر الإنترنت.

قرأ، وقرأ كثيراً.

نام، وقال، واستيقظ.

استقبل الزوار، وارتفعت أصواتهم في المناقشات الحامية حول الحرية، والاضطهاد، والتنكيل، والفساد، والرشوة، والتحيّز، والتهميش، والتعميم، واحتكار السلطة، وأعداء الداخل والخارج، قلّبوا صفحات التاريخ القديم والحديث والمعاصر، واندفعوا إلى آفاق المستقبل القريب والبعيد، بعضهم اتهمه بالتخاذل والاستسلام، وكانوا، في كل ذلك، واثقين من أن مناقشاتهم تسجّل في هذه الفيلا-المصيدة، ولكنهم لم يكونوا آبهين!

***

-اسمك؟

-ألا تعرفونه؟ "عبد الصبور".

-الشهرة، الكنية؟

-إن ذكرتها لكم، أيها الجهابذة، فسوف تضحكون.

-نعدك بألا نضحك.

-هل تأكلون، في عزّ الحرّ، تلك الفاكهة الشوكية، التي يُقيم باعتها الموسميّون المصاطب من أجلها على قارعة الشوارع السياحية، محيطين أنفسهم بشقوق الأزهار والرياحين؟

-تقصد "تين الصبّار"؟

-أنا من أسرة "صبّارة".. اسمي الكامل: "عبد الصبور صبّارة"!

فرآهم ينكثون بوعدهم: يضحكون حتى أوشكوا أن يستلقوا على أقفيتهم!

-المهنة؟

-"مدمن معارضة".

-منذ كم من الزمن؟

-في الداخل بضعة عشر عاماً، ومثلها تقريباً في المنفى الاختياري.

يقول رئيسهم بلهجة ودية:

-يا أستاذ " عبد الصبور صبّارة"، يا نور عيوننا!

-...!...!...!

-قد اطّلعنا، نحن أعضاء " محكمة الأمن الأيديولوجي"، على كل ما قدمته لنا "شعبة محفوظات الوطن"، مما كتبت، وصرّحت، وأدليت، وخطبت، وعرّفتنا، "أجهزتنا الراصدة" على أفكارك المستقبلية وتطلعاتك الخاصة والعامة، الوطنية والقومية والعالمية...وقرأنا. بإمعان شديد كلّ ما خطّته يدك في حق "النظام" من المآخذ والبهادل، وما كِلْتَه له من الشتائم القبيحة، وما كلّلت به جبينه من التهم الشنيعة، وسمعنا كلّ ما تحدثت به، أنت وأصحابك، في تلك الفيلا المريحة التي أسكنّاك إياها، من أننا جرينا-وما زلنا- على اعتقال الأبرياء بالظن والشبهة، وأننا نسحق كل "تنظيم" مناوئ قبل أن يتمكّن من الوقوف على قدميه، وأننا ننتهك حقّ الحياة لخصومنا المعارضين، ولكنْ –للحقيقة والتاريخ-إننا، يا أستاذ عبد الصبور، لا نجعل جماجمهم في أكياس، كما كان يفعل صاحبك"ابن عبّاد" الذي تتغنى بحكاياته، بل نحن ندفنهم في قبور جماعية، واحداً بجوار الآخر، في صفوف منتظمة، رحمة بعظامهم، وراحة لأنفسهم... فوجدنا، أيها المفكر الكبير، أن كل ما صدر عنك، من قول ومن فعل، وكلّ ما يتردد في رأسك من الخواطر والأفكار، صحيح مائة في المائة، وهو مما لا يجول إلاّ في خاطر غيور على وطنه، وإن خالطته أمور خاطئة لنقص في المعلومات التي تتوارد إليك... وعليه فقد قرّرنا...

***

تقول الحكاية: إن المحمكمة أعلنت قرارها، فجاء بـ"عدم مسئولية"الأستاذ عبد الصبور عن كلّ ما كتب وصرّح وباح!

ويقول عبد الصبور إن الجنرالات الخمسة، ما إن لفظوا حكمهم، حتى غابوا عن عينيه فكأنهم ما كانوا، وقوس المحكمة زال، ولحقت به جدرانها وسقفها، ووجد نفسه في العراء، فتوجه إلى بيته سيراً على القدمين.

وتمضي الحكاية إلى القول: إن هذا المواطن الصبور وجد أن الكلام، كل الكلام، أصبح مباحاً: فالناس كلّ الناس، يكتبون وينتقدون وينددون، ولكن لا تأثير لذلك البتة، فقد تبلّدتالأحاسيس، وتحجّرت القلوب، وتجمّدت العقول، واستوى عند الناس الفرح والحزن، الضحك والبكاء، اللذة والألم، الحياة والموت.

وقد تقدّم إليهم مراراً بطلب السماح له بالعودة إلى منفاه، لعلّ ما يفعله هناك يكون أقدر على التأثير، ولكنهم كانوا يعتذرون له في كل مرة عن عدم الاستجابة، مرغمينه على البقاء في هذا...السجن الكبير.