الذبيح
قصة بقلم الأخت: أم حمزة
تثاءبت عجائز الليل بتراخ وكسل وفتور، وتهالكت كدودة عند أعتاب الفجر الوليد الذي
ضحكت في وجهه الناعس شمس طفلة تداعبها بيض الغيوم تتقافز حولها فتحجبها. تغار على
الفجر منها.. وانثنى الفجر يفتح الشرفات ويدخل الضوء يغسل آخر ما علق من عتمة الليل
يغطي بيده فم الليل، لملم الليل نقابه الأسود يأخذ سنة من نوم هادئة في آخر الأفق
حيث يعود عندما يأتي المساء.
وسمعت القرية أصداء ضحكات الفجر فهبت تبسم بود وحنان وصفاء في وجه حقول الذهب الحبلى بالخير والبركات والعطاء الوفير. تبسم في وجه الأيدي السمر لتطرح عن حقول الذهب ثقل الحمل وتغادر الطيور أعشاشها تتسابق نحو حقول الذهب تلقط حب القلوب وتعود ممتلئة وسعيدة تمسح عن وجه الفلاح تعب اليوم.
وانسابت سنابل الذهب بين أيدي النسوة بيسر وسهولة تحنو على الدماء الراشحة بؤساً وأسى وحزناً..
الدماء الراشحة حسرة.. أين أنت يا أيادي الرجال؟! أين الخشونة والقوة والرجولة؟!.
أين قبضة الفأس القوية؟!.. أين ضربة المنجل الفتية؟!..
ومن وسط الحقل.. حقل النساء.. انبثقت صرخة محمومة قد أخطأت المنجل وهوت على يد حليمة وتجاوزت شفرتها الحادة الجذور الذهبية لتستقرَّ على نزف الدماء من يد (حليمة) التي صرخت ثم كتمت صرختها فقد تعلمت أن تخرس القلب واللسان عن الألم حتى الألم تمضغه تلك القلوب المتعبة تمضغه حيث يعسر المضغ وتبتلعه حيث يصبح حجارة وهل تبتلع الحجارة؟!.. هل تهضم؟!.. هل تمضغ؟! يا أمة العرب من لك؟!.. من لك؟!.. ابلعي الآلام؟!! ابلعي الأحزان؟!.. ابلعي حتى الدماء؟!..
فلا صلاح الدين؟!.. ولا معتصماه؟!.. ولا عمر؟!..
وانبثق الدم يرطب ويخفف من قسوة اليد الحمراء وهمست اليد.. سعيد أعطني منديلك يا ولدي".
سعيد الطفل الذي شرب وحل العذاب وأجترّ قشور الألم مستنداً على يد أم أزهرت على يديها نجوم وأبطال يحولون الظلمات نوراً.. يحولون العصافير نسوراً وصقوراً، يد أم أزهر الأمل يضج حياة ورجاء؟.
غداً يكبر سعيد وتكبر معه الأماني كلها.. سوف يجري في دمه دم صلاح الدين.. دم غسيل الملائكة، دم حمزة يفجّر الأيام بطولة وشهادة ونصراً، بطولة تتقافز في الجنة حوراً وتسنيماً ونعيماً.. بطولة حبلى بالخير والإيمان.. الإيمان المبتسم دائماً على وجه النصر المنتظر عندها عند النصر الإيماني المظفّر.. عندها يضحك وجه يافا الصابر الوقور في وجه شجيرات البرتقال لتطرح الثمرات الشهية، أليست هي مروية بدم الشهداء الممزوج بعبير الجنة .غداً يكبر سعيد ومعاً نزرع فسائل الزيتون الغضة الندية على صدر نابلس الذي يرنو بتفاؤل وخير وإيمان نحو غد أقرب إليه من حبل الوريد.
وترنو (حليمة ) نحو أمس قريب حبيب وتنسال أمامها ذكريات (عبد الله) الذي جاءها ببقايا أنفاس متعبة مكدودة جاءها بأشلاء دماء تنفث على وجهه بطولة قوة، إيمان، تحدٍ، بقايا أنفاس تجر وراءها ستة جنود من اليهود يلقون فتى يقال له (عبد الله) بمسدس ورشاش.. ويد الفتى لا تحمل سوى حصيات. ولكن حصيات (عبد الله) لا تسكت قلباً ولا تطلق ناراً.. ولكنها تضخ قلب يهود بالخوف والرعب والهلع.
حصيات (عبد الله) الموت خوفاً.. الموت رعباً.. يد فتى لا تحوي سوى مقلاع قد حفلت جلدته بعشرات القتلى اليهود فما ملّت ،ولا تعبت ولا وهنت، وعلى شقوقها سُطِّرت أروع بطولة فكانت أقدس سلاح وكانت سجيلاً وكانت أهدافها قاعاً صفصفاً.
قال بهلع:
- خالتي.. خالتي.. خبئيني.. خبئيني..
يا خالة اليهود ورائي.. لا أريد أن أموت.. الآن ما زال أمامي الكثير، ما زال مقلاعي يحنو إلى حصيات.. ما زالت أصابعي تتشوق إلى رمي الحجارة.
اضطربت اهتزت.. ولكنّ الإيمان أسندها، بلغ قلبها حنجرتها.. إليّ يا فتى.. إليّ يا فتى.. وهلل الإيمان في قلبها.. نفضت ثوبها وأدخلت الفتى في طياته وجلست على آخر درجات دارها مطمئنة وحزينة، وابيضّ قلبها من الابتسام.. وجاءها الجنود.. جاءها ما كانت عنه تحيد..
- أين الفتى يا امرأة..
والرشاش والمسدس فم وحش ناري يندلع منه الموت ولكن الخوف ولى ولم يُعقّب قد حلّ الإيمان .
- لم أر أيَّ فتى.. لم أر أحداً يا ذوي الوجوه الصفر.
وبصقت في وجه قائدهم.
- لا تكذبي.. لقد دخل البيت..
وأشارت بيدها غير مبالية:
- فتشوا البيت..
ورُدت من شرورها.. فتشوا البيت.. كيف.. كيف..
وحلقة السرداب.. ومهد صغيرها.. فتشوا البيت.. وزوجها ورفيقاه المحشوران هناك في رطوبة السرداب وبرودته.
وأحسّت برعب قاتل كاد يُزهق أنفاسها، وطفرت الدموع من عيونها.. وهرب قلبها الحزين الذي يعانق حنجرتها.. هرب إلى الله.. يرتل ما يرطب القلب ويسلي الفؤاد..
فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.. ولم يردها من سباتها سوى حركات الفتى فأطلقته وكادت أن تخور أن تقع أن تستسلم لتلك المشاعر الهدامة، مشاعر اليأس والقنوط، كادت أن تقع لولا حنان عرائش العنب التي تدلّت ثرياته وأسندت (حليمة) رأسها تستروح بعض الراح بعض الأمان بعض الاطمئنان.. ودلفت على أعتاب الدعاء تغسل بكوثر الدعاء ما علق في قلبها من خيوط اليأس العنكبوتية، وهمست: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، كيف يتوصلون إلى المأوى.. إلى المخبأ، فالملائكة تحرس هذا البيت، والدعاء يعارك القدر حتى يغلب الدعاء القدر..
وخرجت فلول الجند خاسرة خاسئة.. ذليلة.. والغيظ ملء قلوبهم وعيونهم.. وصرخ قائدهم:
- أين الفتى يا امرأة؟
واغتسل القلب ببرد السلام.. ورُدَّت الروح إلى قعرها، وفارق القلب الحنجرة، وصرخت بصوت عال:
- لم أر.. لم أر فتى..
- قولي وإلا..
وصوّب الرشاش إلى الصدر الريان ببرد اليقين.. والإيمان.
- قولي.. انطقي يا ذات الرداء الفلسطيني.. هل أجعل الرشاس ينطق.. هل أجعله ينطق..
- لا أعرف.. لم أر.. لا أدري يا أصحاب الوجوه الصفر..
وصافحت عيناها قوله تعالى الرقيق: "قيل ادخلي الجنة".
وملأ تحدّي ذات الرداء الفلسطيني قلبه حنقاً فأصبح لأنفاسه تغيظاً وزفيراً ورماها أرضاً وداس على صدرها وركلها بيد فاختلط تراب الأرض بقطرات الدم الذكية، فأصبح الدم يغذي حبيبات التراب التي ضحكت عزة وفرحاً وفخراً.
آه كم تمنت ذلك اليوم الشهادة، كم تمنت ولكنها حملت جراحها ودخلت البيت.. دخلت البيت.. وألفت صغيرها.. لدى الموت ساكناً هادئاً، ولقد التوت عنقه التي مزقها حذاء اليهودي النجس.. هذا ذبيح آخر.. هذا ذبيح آخر..
طفل ذبيح.. وهل تذبح الأطفال، هل تذبح زغب القطا..
آه يا ذبيحي الصغير.. لقد ذبحوك والتوت عنقك بابتسامة على ثغرك الذي كان جديد عهد بلثغات الطفولة.. حملته وهناً على وهن والدموع تغسل آثار الحبيبات الترابية المزهوة على خدودها، وبهدوء فتحت فوهة السرداب ودلفت به إلى والده..
تناوله الأب المحزون ولم يتمالك نفسه إلا أن يقول:
- واهاً للطفل المسكين.. واهاً للطفل المسكين.. يا حبيبي الصغير ما زالت إصبعك في فمك تلهيك عن أمك وعن الحليب الذي يبيعونه لنا بالدم والدمع بالنفس والمال والولد.. ما العمل يا صغيري.. ويهود والشيطان وأعوانه يتأمرون علينا ليزرعوا أنفسهم فوق ترابنا ولكن ترابنا يلفظهم.. يمجّهم..
لكنهم يا صغيري غيروا وجه ترابنا.. وأفسدوا زرعه حتى صارت زروعه عدواً لنا.
يا صغيري.. لتبق إصبعك في ثغرك حتى بعد أن تبرد عبرات الدم على طرف ثغرك الحبيب..
يومها أخذه والده يواريه التراب ومن ورائه خرج أطفال القرية فرادى ولألأ الدمع يتماوج في العيون إيماناً وبين الأصابع تزهو الحصيات تتقافز شوقا للمجد والحرية والرفعة والسمو.. والظلال الوارفة تتقافز شوقاً للخلاص.. شوقاً للعودة.
وأفاقت (حليمة) من ذكرياتها.. وعادت إلى العمل.. واخضرّ الأمل في قلبها..
نعم ستكون سنواتهم المقبلة ذهبية عزيزة سامية شامخة.. سوف يحصدون ما زرعوا نضرة وسروراً.. سوف يحصدون الخير في أينع ثماره، وأثرى عطائه، وأوفر قطافه ويوم الحصاد قريب قريب..
وتنظر حليمة لترى سنابل القمح تزحف قوافل تعانق البرتقال والأعناب والزيتون، وتهب حقول فلسطين تشارك في فرحة الحصاد حتى الصفوان.. ولمَ لا ينبت الصفوان؟ أليست الحجارة تفجرت بالإيمان ينبوعاً؟.. أليست العصا تحركت بالإيمان؟.. أليست النار كانت بالإيمان برداً وسلاماً؟
وترى أمامها القوافل تجتاح أفئدة الغوطة تمسك بيدها تشدها فتهب الأفئدة تغتسل ببرد السلام والإيمان ومعاً نحو الأندلس حيث هناك يولد طارق من جديد ومعاً نحو طوروس حيث يستيقظ الخير الغافي في قلبه.. معاً نحو مرابع عمر المختار.. سيتحدون صمود عشرين عاماً.. صموداً بالإيمان والثقة بالله.. عشرون عاماً أمام المشانق والأسلاك الشائكة.. معاً جميعاً نحو النصر، النصر العزيز بقوة الإيمان بقوة لا إله إلا الله..
ولينصرنّ الله من ينصره.. فأيدنا الذين آمنوا..
وتمشي حليمة وتنساب رؤاها وتطلعاتها وآمالها، وما ذلك على الله بعزيز.. وما ذلك على الله بعزيز..