اللقاء الأول بالسيدة المعتصمة

اللقاء الأول بالسيدة المعتصمة

قصة: فاضل السباعي

في ذلك اليوم، زارني "زند النظام" –وهو صديق قديم قد دخل سلك القوات المسلحة فَعَلَت مراتبه- ليطلب مني، بكل بساطة، أن أعد له.. لقاء، يجمعنا نحن الثلاثة، أنا، وهو، و.. "السيدة المعتصمة"!

استغربت:

"هل أنت جاد، يا صاحبي؟"

- كلّ الجد.

- ولكنك تعرف أنّ "السيدة المعتصمة" متوارية عن الأنظار، منذ ضيّقتم عليها، وعلى أنصارها، الخِناق!

- أعرف هذا، ولكن.. هل هي متوارية عنك أنت، أيضاً؟

ساءني سؤاله، أيحسبني من أنصارها؟ إنهم هكذا دائماً، يرمون المواطن بالشك محملينه عبء إثبات براءته! حقاً، إنّ لي ألف ملاحظة على أسلوبهم في الحُكم، وعلى ممارساتهم التي أمست معها الحرية في خبر كان.. ولكن نفسي لم تنازعني، يوماً، إلى أن أنضم إلى معسكر المعارضين، المتزايدة أعدادهم، والذين باتوا يطاردون من قبل أتباع السلطة مطاردة الهررة من وحوش الغابة!

قال "الزند":

"المعتصمة قريبتك!"

وابتسم.

- أجل، إنها بنت ابن عم أبي.. وأنت، يا عزيزي، قريبي أيضاً.

رأيتُ بسمته تتّسع:

"ذكّرني بالقرابة التي بيني وبينك؟ أعرف أنك "تحسب" جيداً!".

جاريته في ابتسامته:

"إنّ جدّتك من طرف أمك.. تكون خالة بنت خالة جدتي، من طرف أمي.."

انفجر "الزند" مقهقهاً، حتى دمعت عيناه..

امتعضتُ:

"ولكنها قرابة ليست من "البعد" لدرجة تبعث على هذا الضحك كله! كلّ ما هنالك أن جدّتينا من طرف الوالدتين، هما ابنتان لشقيقتين".

مسح دموعه بأصابعه الفولاذية:

"يعني.. جدّتي أنا، جدّتي أمَ أمي.. وجدّتك أمّ أمك.. هما.. هما.. لحظة واحدة.. أم كل منهما تكون شقيقة للأخرى.. الجدتان "بنات خالة" يعني.. صارت الأمور واضحة!".

داريتُ خجلي:

"على كل حال، إنّ ما بيننا ليس هو تلك القرابة التي ما برحت تراها أوهى من خيوط العنكبوت، ما بيننا خبز وملح. ما بيننا أنّا كنّا نلعب، مع أولاد الحارة، لعبة "الطمّيمة" ونحن حفاة.. ونتخاصم، ونتصالح.."

كانت بسمته قد غاضت، واستردّ وجهه ملامحه الصّلدة:

"لهذا لجأت إليك، يا صديقي العزيز. باسم الصداقة والقرابة والخبز والملح، أريدك أن تجمعني بـ "السيدة المعتصمة". لقد أُمرت بأن أصغي إليها بنفسي لأتعرّف حقيقة آرائها في نظامنا.. ما تأخذه علينا من أخطاء.. حسناتنا.. إن كان لنا، في رأيها، حسنات! وأؤكّد لك، يا صديقي القديم، أنه لن يصيبها مكروه قط. أقسم لك بشرفي العسكري والمدني والـ...

     

- .. إنه يريد أن يتعرّف حقيقة أولئك، وذلك ما يتيح لك أن تقدّمي له تصوّرك للديمقراطية وللحياة المقبلة.

- آراؤنا، يا ابن العم، مبثوثة في كتبنا، وفي منشوراتنا السريّة، الموزّعة، والتي لا أسهل من اطلاعهم عليها.

- ولكنها فرصة فريدة، كما أرى، أن تلتقي بهذا "الزند" الفولاذي، وتُفضي إليه، أنت نفسك، برأيك في النظام وتطبيقاته وممارساته.

- إن انتقاداتنا هي ما يتهامس به الناس في الشوارع والمعامل والمدارس وبين جدران البيوت.. وليس عسيراً على أتباعه أن يتسقّطوها ويحملوها إليه.

- لقد رأيته حريصاً على أن يُصغي إليك بنفسه، يا ابنة العم! في الواقع، لقد سألته عن حقيقة المراد بهذا اللقاء؟ فأجابني بكلمتين اثنتين: "تسوية خلاف"! لست أدري، يا سيدتي، كيف سوّلت لي نفسي مداعبته.. فقلت له: "أتسوية خلاف أم تصفية حساب؟!" أتدرين بمَ أجاب؟ "إنّ كلاً من التعبيرين هو على الوزن ذاته: "تفعلةٌ فِعال!" تابعت: "إن ما يشيع بيننا أنّ "الزنود" يقومون بتصفية الحسابات مع خصوم السلطة، أولئك الذين يختلفون معها في الرأي!" استجاب "الزند" لدعابتي: "هل لاحظت أنّ الحرفين الأوّلين من التعبير الأول هما "ت خ" وأنهما في التعبير الثاني "ت ح" فالرمزان لا يختلفان إلا في نقطة واحدة: "حاء، مهملة و "خاء، منقوطة من فوقها!!". قلت: "نقطة وأيّ نقطة! إنها لتقلب المعنى، تقلب الأمور، رأساً على عقب!" قال أخيراً: "إنها ولا شك، تسوية خلاف بالحوار الديمقراطي، وكما يقول رائدنا العظيم "نظام الدولة": "إن القضية الوطنية لا يختلف فيها مواطنان صالحان، لذلك بدا لنا عازماً على أن يمدّ بد التعاون والتفاهم إلى المعارضة المتوارية، لا أن يحزّ عنقها.. فالعدو على الأبواب، وعلى الجميع أن يتّحدوا، وأن يطووا صفحة الماضي ويفتحوا صفحة جديدة مشرقة"..

- ألم يساورك شك في صدق نواياه؟

- أعترف لكِ بأني خامرتني، في البداية، شكوك. قلت له: "لقد دأب الناس على أن يشكوا في نواياكم، ويعتقدوا، صواباً أو خطأً، أن الغدر من شيمكم!" فرأيت، يا سيدتي، "الزند" الفولاذي يُقسم لي بشرفه العسكري والمدني والشخصيّ..

- الشخصيّ؟!

- أجل، لقد أقسم بشرفه الشخصيّ أيضاً!

- ما معنى "الشرف الشخصيّ"؟

- ربما كان.. نوعاً أو مرتبة من مراتب "الشرف" الذي يعتدّ به "الزند".. وهو غير "الشرف العام" الذي يتفرع عنده إلى عسكري ومدني! لقد أقسم لي، بشرفه هذا، ألاّ يصيبك أيّ مكروه. أنت تعلمين أن "زند النظام" هو، بعد كل شيء، قريبي من ناحية الرّحم، مثلما أنت قريبتي من ناحية العصبة، يا ابنة العم، أنا، حتى اللحظة، لا أبرئه من شكّي البراءة كلها. ولكني أتساءل: ما النفع الذي يعود عليهم إن هم غدروا بكِ؟ إنّ إلقاءهم القبض عليكِ، لا أظنه يزيد موقفهم أمام المعارضة إلا تردّياً. لسوف يتفاقم سخط الجماهير على السلطة، التي حنثت بقسم أولي، وغدرت بـ "السيدة المعتصمة" في أول لقاء تظاهرت أنها تمد فيه يد التفاهم. ولو افترضنا أن قد وقع هذا المحذور، فإن ذلك لا يوهن حركتكم، الغنيّة برجالاتها الأحرار الشجعان، بل يقوّيها ويكون لها أشبه بمادة ملهبة تلقى على نار.

- وهل أعطاك، غير القسم، ضمانات، يا ابن العم؟

- منحني حق أن أختار مكان اللقاء وزمانه، وأن أفاجئه بهما إن شئت! قال: تدعوني بالهاتف، فآتيك فوراً إلى حيث تحدد لي، وحيداً دونما حرس، وقد غاليت في حيطتي، يا ابنة العم، فقلت: ربما دعوتك، فأتيتني ولم تجدها! وقد ضحك لذلك طويلاً. لم أره رهيباً يا سيدتي. عدت أتقرّى فيه ملامح ذلك الطفل، الذي كثيراً ما تشاجرت وإياه طفلاً.

- والشروط؟

- ليس له شروط. قال: "شرطي الوحيد ألاّ يكون لأحدنا شروط مسبقة لهذا اللقاء" فإذا ما تيسّرت الأمور، كان اللقاء الأول ممهداً للقاء يتلوه بينك وبين.. "نظام الدولة" نفسه...

     

فتحتُ الباب. فبدا لي "زند النظام" باسم المحيّا، على نحو أفعم صدري بالطمأنينة.

"أهلاً، صديقي العزيز!".

ضجّ صوته مرحاً:

"إياك أن تقول أنك.. لم تدعها.. إمعاناً منك في الحيطة!".

بنظرة فاحصة خاطفة، تبيّنت أن "الزند" لا يحمل ما يريب. ولكني لمحت وراءه رجلاً، متأبطاً شيئاً ما، كان على هيئة كتاب متطاول، أو هو مجلة مثنية بالطول، مغلفة بقرطاس زاهي الألوان.

همستُ في أذنه:

"أنت، يا صديقي، خالفتَ تعهدك بأن تأتيني بمفردك!"

جاراني في همسي:

"هذا ليس مرافقاً لي، ولا حارساً، إنه سكرتيري الخاص، أمين سرّي. جئت به كي يقوم بالواجب. أنا لا أحب الكتابة. بالأحرى، لا أريد أن تتلوّث أصابعي بالحبر!".

لم يستطع ما أضفاه على قوله، الغريب، من المرح، أن يحول دون أن يغشى قلبي خوف. كتابة! تلويث أصابع!!.. انفجرت في أعماقي ريبة مباغتة انفجار قنبلة!

كنا قد بلغنا غرفة الجلوس، حيث زوجتي والأولاد.

لم أكد أهمّ بأنّ أقدّم لأسرتي الصغيرة صديق الطفولة وأمين سرّه، حتى كان هذا الأخير يتّجه، دونما استئذان، نحو باب.. يفضي إلى الغرفة التي كانت "السيدة المعتصمة" كامنة فيها!

ألقيتُ إلى "زند النظام" نظرة استعانة، وأنا ألحق بتابعه.. الذي كان قد رفس الباب بقدمه، ومدَّ رأسه مستطلعاً.

كانت "السيدة المعتصمة" جالسة على الأريكة، فلما فوجئت بالرجل الغريب يقتحم عليها خلوتها، انتصبت واقفة، وقد أومض في عينيها شك.

اندفع الغريب نحوها. تلقّته بنظرة ثاقبة، رأيته، وأنا أتبعه، يضغط ذراعه الأيسر على ما يتأبطه من ذلك الشيء الملفوف بالقرطاس.. مادّاً يمناه إلى "السيدة المعتصمة" يمسكها من مؤخّر عنقها، ويشدّها.. فتنقاد له، صامتة، إلى الجانب الآخر من الغرفة.. يمزّق، بخفة متناهية، أعلى قميصها مما يلي القفا.. ثم، لست أدري كيف نزع القرطاس عن ذلك الشيء المتأبّط، فإذا هو.. "ساطور" ذو شفرة تلتمع!!

قبل أن يتسنّى له أن يتناول الساطور بيمناه، كنت قد وثبت إلى حيث "زند النظام"،

"صديقي! إنّ سكرتيرك.. يهمّ بذبح "المعتصمة".. التي جئتَ لتفاوضها..."

فما اختلجت في وجهه خالجة، ولا رفّ له جفن.

بوثبة أخرى، كنت قد عدت إلى حيث الجزّار، رأيت "المعتصمة" مشدودة من شعرها الرمادي، ووجهها إليّ. ولحظةَ هوى الساطور على مؤخّر الرأس، كانت ترسل إليّ نظرة تحمل أبلغ معاني العتاب: أبيدك، يا ابن عمي، أسلمتني إلى الجزّارين؟!!!

الرأس يتدحرج.

شلاّل دم.

ويتدفق، من زوجتي والأولاد، شلال عويل...

     

وأنا هائم على وجهي..

كان الشعر المشدود،

والنظرة العاتبة،

والرأس المفصول،

والدم،

والعويل،

وشلال الندم، كلها.. تخفق في خاطري.