الانتظار

سيرين ملص

انداح الصمت العجيب فابتلع الضوضاء و القلقلة المنبعثة من جراء الأحاديث الجانبية بين ركاب الباص. جلست السيدة حياة ملتصقة بالنافذة على كرسي ذي مقعدين، بينما رمى زوجها السيد عبد المقتدر بثقله منجعصا بجوارها. و لم يذعن الحاضرون عن صمتهم حتى أغلق باب الحافلة و دفعها السائق مكملا مسيرته. فالسيدة حياة من أجمل نساء الحي و أكثرهن جاذبية. و كثيرا مـا ضـرب الناس كفا بكف عندما تزوجت متمتمين بسوء حظها رغم حسنها البالغ. فالسيد عبدالمقتدر رجل متعصب قاسي القلب كما عرف. فلا تبرح التقطيبة جبينه أبدا و لا تجد الابتسامة الى وجهه سبيلا .

و مع كل ذلك كانت السيدة حياة زوجة مطيعة و دؤوبة على الاجتهاد لارضاء زوجها المتحجر العقل و القلب. فالقصير ممنوع و الماكياج ممنوع و الابتسام ممنوع و الكلام بحدود و الضحك عيب و الخروج من البيت دون صحبته حرام. فهو لا يفارقها دقيقة ، يلازمها كظلها. و كل صباح يوصلها الى باب الدائرة حيث تعمل موظفة في الحسابات ، و عند انتهاء الدوام تعود برفقته الى البييت بنفس الطريقة. و رغم قنوتها و طاعتها له، كثيرا ما تعالت أصواتهما في مناكفات ملتهبة و لكن سرعان ما كانت نيرانها تنطفئ.  

و ظلّت الأوضاع على هذه الحال حتى تركت السيدة حياة البيت غاضبة الى بيت أهلها اثر شجار وقع بينهما ذات ليلة نحو منتصف الليل و لم بنتهي حتى بزوغ الفجر. و منذ تلك الليلة انقطعت أخبارهما تماما . الا أنه كانت هناك شائعات حول حدوث طلاقهما من عدمه. و كما جرت العادة أصبح الاثنان عرضة للتنبؤات و الثرثرة . حتى غلب الشك اليقين و تأكد خبر انفصالهما عندما صعدت السيدة حياة الباص ذات نهار في موعدها المأثور بمفردها تتبختر في كامل زينتها و قد بلغ جمالها ذروته. فأشرقت في الحافلة كأنها الشمس نفسها و هي تلق التحية و السلام و ما قدرها الله عليه من الابتسامات و الرمقات العابرة. فزلزلت القلوب و أدارت الرؤوس. و بدأ أصحاب القلوب المريضة كلّ يمنّي نفسه بالسّطو على قلبها . فيسايروها بمعسول الألفاظ بيينما كان آخرون يختلسون النظر اليها بين الحين و الآخر بحذر مكتفين بما قسم الله لهم من تلك المتعة الوجيزة.

أما الويل كلّ الويل لموظفي الدائرة ! أصبحوا كمن على رؤوسهم الطير.يعملون عن قلوب غائبة و يتربصون لها في الذهاب و الاياب مترقبين سنوح الفرص للهمس و الكلام. فطوقوها بالدعابات و تباروا في ارضائها لاجتذاب اهتمامها و استحواذ عطفها.

و عند انقضاء النهار وقف السيد أحمد قرابة المصعد ينفث "سيجارة" ناظرا الى الساعة بشغف:

ـ كيف الحال يا مدام حياة؟

ـ الحمد لله بخير ، ألم ينتهي دوامك يا سيد أحمد؟

ـ و هل انتهى دوامك أنت؟

ـ أجل، بالطبع ، لماذا تسأل؟

ـ لأن دوامي يبدأ و ينتهي مع دوامك؟

ـ إذا فأوقات العمل لدينا متشابهة.

ـ بالنسبة لي أنا ، أنت أوقات العمل و الانصراف و أنت الدوام يا مدام !!

فضحكت و قد هلّت من عينيها نظرة رضا بينما استقلّا المصعد. اردف قائلا:

ـ من أين طريق بيتك يا مدام؟

ـ بيتي من هنا.

ـ يا محاسن الصدف هذا طريقي  أنا أيضا. تفضلي سوف أوصلك لدارك فأنا أخشى عليك من عبث المتطفلين.

ـ لا بأس إذن.

و سارا صامتين جنبا لجنب و بينما كان هو يمتع ناظريه منها خلسة انشغلت هي تقلب عينيها بين محلات الملابس و الأحذية و ما إلى ذلك المصفوفة على محاذة الطريق، بغير اكتراث لصاحبها الذي أوقعت في أحابيلها.

ـ أنا جائع ! ما رأيك في تناول طعام الغداء في هذا المطعم انه من الطراز الممتاز؟!

ـ لا أرجوك فقد قضينا وقتا كبيرا في المشي و يجب أن أكون في المنزل الآن!

ـ نعم .. نعم..مفهوم ،مفهوم.  و ما رأيك في جعل ذلك عشاءا ؟

فأومأت برأسها بالنفي و لكنه أطرد معززا:

ـ بلا، بلا! لا تخذليني هذه المرة أرجوك فنحن زملاء منذ زمن طويل و لم نجلس مرة سويا نتجاذب أطراف حديث ما في مكان هادئ جميل.  ثم ان لدي ما أقوله لك ، و ما عندي لا يحتمل التأجيل.

فكرت سريعا ثم أجابت مستسلمة بالقبول و قد لاحت نظرة زجاجية في عينيها:

ـ حسنا.. قابلني عند المحطة يوم الخميس المقبل في الساعة السادسة.

ـ الخميس؟! و هو كذلك!

و في صباح يوم الخميس – اليوم الموعود، أيقظت الموسيقى المتصاعدة من بيت السيد أحمد سكان العمارة باكرا. استحم و مشط شعره و شاربيه و لبس بذلة رسمية أنيقة حتى بان طول قامته في تلك الهيئة. و تطيب متأهبا للقاء مدام حياة . سار الى الدائرة يفرقع بأصابعه و يدندن الأغاني مختالا برشاقة و نشوة الانتصار تبرق في عينيه. الا أنه صعق عندما لاحظ أن السيد منير قد صبغ شعره الأبيض للمرة الأولى حتى بدى أصغر من سنه بمراحل. حتى السيد هشام موظف الحسابات بدى مختلفا بتلك الوردة التي شبكها الى ترته كالعريس ليلة زفافه.

 

و ندت السيدة حياة بعينيها المتلألئتين  و قوامها الممشوق و ضحكتها التي تملأ وجهها بالحياة و تملأ قلوب أولئك بالأمل. و القت التحية على الجميع و رد السيد أحمد التحية بعينين صابرتين شغوفتين.

في ذلك اليوم كان الجميع يشتكي من طول الدوام فتذمروا ضجرين و تضاعفت أعداد فناجين القهوة و الشاي الواردة ، فهي اللذة الوحيدة المتوفرة التي يطيب معها الحديث و نفث السجائر لقتل الوقت. و طبعا كان السيد أحمد أكثرهم توقا للقاء الحبيبة. و انقضى النهار بأعجوبة و فروا جميعا كل الى حال سبيله كالفئران.  و دلكت الشمس و أخذ الوقت المتفق عليه يقترب. و لكن السيد أحمد كان قد غادر المنزل قبل بلوغ الموعد بكثير و اتجه الى السوق و ابتاع خاتما نفيسا و وضع العلبة في جيبه و ربت عليها و الاطمئنان و الرضا يستوليان على مهجته المشتاقة.

و بينما وقف السيد أحمد منتظرا على مقربة من المحطة رمق خيال انسان ليس بغريب عنه يبعده بأمتار قليلة و عندما نظر من حوله ليتحقق من وجود أحد آخر لمح سيارة السيد منير الرمادية موقوفة في احدى الزوايا.

 و نفذ صبره و توجه نحو تلك السيارة بخطى متباطئة و  فعلا كان ذلك السيد منير يجلس في سيارته ينفث "سيجارة" و يدير مفتاح السيارة يريد التعرف على الوقت من خلال الساعة :

ـ سيد منير ؟

ـ سيد أحمد؟!

ـ ياللمفاجأة! ماذا تفعل هنا في مثل هذا الوقت؟؟

ـ أنا؟؟ أبدا أقوم بنزهة ليلية في الهواء الطلق بعيدا عن ضوضاء المدينة . و أنت؟؟

ـ آه.. الحقيقة .. أنا كنت على وشك مغادرة المكان .

السيد هشام:  مساء الخير

السيد أحمد: السيد هشام انت أيضا هنا؟؟!!!

السيد هشام : ظننت أني لمحت وجوها مألوفة من بعيد و بدت السيارة كبيرة الشبه بسيارة السيد منير .

السيد منير:  أجل يا سيد هشام  أنا منير .. كيف حالك؟

ثم أطرد السيد أحمد قائلا بلهجة ملؤها الحيرة : انه لأمر غريب ! يا جماعة لنكن صادقين! هذا اللقاء ليس بصدفة !!!

السيد هشام:  لا ابدا ! و الله ليس بصدفة!

تجمد السيد منير للحظة منصتا و هو يضع سبابته على فيه و همس : ششش! اسمعوا!

ترامت أشباح حديث دار بين اثنين كانت أصوات رجل و امرأة . انه صوت السيدة حياة!!!

 

هل تريد أن نتشاجر ثانية ؟ اسمع!  على بعد أمتار ثلالثة رجال من خيرة الناس ينتظرون مني كلمة    رضا ، فما رأيك؟؟

ـ بماذا؟

ـ بماذا ؟؟ أتريدني؟!

ـ طبعا، طبعا هل جننت ؟ و هل توقفت يوما عن حبك؟؟

ـ إذا عليك أن تنفذ كل شروطي !!

و عم الصمت لبرهة 

- أما زلت تفكر و تدير الأمر في رأسك ؟؟ أنا ذاهبة! أنت لا تستحق مني حتى أن أنتظر منك جوابا ! انها غلطتي لقد أمضيت معك خمس سنوات طوال زهرة عمري و شبابي و أنا أنتظر أن تتحسن أخلاقك و تتبدل طباعك.  أما أنت . انت لا تنتظرني و لو مرة من أجل أي شئ . و لا تعطيني الفرصة لأفكر ، لأتكلم ، لأشعر لأوافق أو أعترض . لأعيش !  أنت لآ تنتظرني حتى حينما آكل أو ألبس أو أعمل .. حياتي معك التزامات و مواعيد و محاولات عاثرة لعدم اغضابك! لقد سئمت! مللت! لقد حرمت نفسي الأمومة كل هذا الوقت خوفا على أطفالي من معاشرتك  من قسوتك و قلة صبرك و غلاظة معاملتك ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌!

ـ حياة!! حياة!! أرجوك انتظري ! لا تذهبيّ أنا أحبك !!

و انهال عليها بالكلمات الجميلة و الوعود بكذا و كذا و هو يبكي و ينشج و يعتذر ..

قال السيد أحمد و هو يهمّ باشعال لفافة سجائر:  " راحت!"

السيد هشام : أجل راحت !

السيد منير : مسكينة ! تعذبت كثيرا على ما يبدو . علّه ينفذ وعوده و يعوضها عن كل ما فاتها.

السيد أحمد: هل ابتعت خاتما؟

و أجاب السيد منير باماءة من رأسه بالايجاب.

السيد هشام : لقد ارتفعت أسعار الذهب كثيرا ! ابتعت هذا ب 5000 .

ابتسم السيد منير قائلا: هيا ادخلا السيارة فالطقس بدأ يبرد  و لنذهب لمكان جميل أعرفه لنتناول نخب هذا الفشل الجماعي !

السيد هشام: للفشل الجماعي  اذن!

السيد أحمد: كلا ! بل للانتظار!

و ردّد الثلاثة : للانتظار!!!