المتولي

المتولي

علاء سعد حسن حميده

[email protected]

زاده الله بسطة في الجسم ووجاهة في الوجه .. دائما وهو يقف أمام المرآة يتذكر أمه الحاجة وهي تردد كلما رأته: بسم الله الرحمن الرحيم (  لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) صدق الله العظيم ..

( المتولي ) .. لابد أن أباه .. بل جده .. كان من أهل الطريق .. ولذا أصر على أن يسميه ( المتولي ) .. كان يحلم أن يراه شيخ طريقة أو إمام جامع القرية الكبير ..

شق المتولي طريقه بعيدا عن أحلام جده وآمال أبيه .. حتى دعوات أمه لم تكن تبلغ أبدا ما هو فيه ..

طيب القلب هو لا شك في ذلك ، ولولا طيبته وحسن نيته ما وصل إلى ما هو فيه مديرا كبيرا يتحكم في عشرات البشر بقرار منه ..

جده كان يحلم به إمام مسجد يدعو إلى العدل والحق .. فإذا به مسؤول يحقق العدل ويقيم الحق بنفسه، ويطبق الصواب ، ولا شيء غير الصواب ..

والصواب عنده ما يراه  بعينيه .. لا ما يرى غيره ، فما يرى غيره خطأ لا يحتمل الصواب ، وما يراه هو صواب قد يحتمل الخطأ بنسبة واحد على مليون ..

الصواب عنده أن يأخذ كل ذي حق حقه .. ولأنه مسؤول كبير ومدير فرع شركة يعمل بها عاملون متعددي الجنسيات .. كلهم من دول مسكينة ومستكينة .. فإن واجبه يحتم عليه أن يأخذوا حقهم كاملا ولا شيء سوى حقهم ، وأن يؤدوا واجبهم غير منقوص .. ولا يريد منهم أكثر من الواجب ..

إذا فاوض العملاء لتنفيذ مشروعاتهم حاول الحصول على أعلى سعر لشركته .. وإذا قرر الاتفاق مع العاملين جادلهم فأكثر جدالهم متفقا معهم على أقل سعر في السوق .. فهو جد حريص على مال الشركة التي تستأمنه في موقعه ..

لا يؤمن بنظرية(  الغالي ثمنه فيه )

يردد دائما : أنا الذي أتفق وأنا الذي أستلم العمل ، ولا يمكن أن أستلم أبدا عملا لا يكون على أعلى درجات الجودة . وهو بذلك يحصل على عمل قيمته خمسة عشر قرشا ولا تدفع الشركة في مقابله أكثر من خمسة قروش ..

لا ظلم اليوم ..

سوق العمالة ممتلئ دائما والبدائل جاهزة !! 

وهو معروف بين الناس أن كلمته سيف .. إذا قرر عقاب احد العاملين أو الخصم منه أو مجازاته على خطأ ارتكبه ، أو ظن في نفسه أنه ارتكبه ، أو احتياطيا حتى لا يفكر في ارتكابه ..  فإنه لا يمكن أن يعود في كلمته أبدا ..

وإذا وعد احدهم بعلاوة أو مكافأة على عمل ينتظر انجازه .. فهو دائما عند وعده .. لكن ربما ظروف الإدارة لا تسمح ..

لكن تبقى دائما كلمته سيف فوق الرقاب ..

ومن الحق الذي لا يرى سواه .. أن العمل واجب .. والواجب مقدس .. والعمل عبادة .. والله تعالى خلق الجن والإنس لعبادته .. وعبادة الله لا يمكن أن تكون مقصورة على المساجد فقط .. وإنما العبادة هي العمل وإعمار الكون ..

وفي سبيل الاعمار ، ولتحقيق العبادة .. لابد أن تتحقق عبودية العامل .. لابد أن يتخلى عن حريته الشخصية ، ويتسامى على آلامه وظروفه أيا كانت ..

يبكي احدهم وهو يقول: بسببه لن أرى أبي حتى يوم القيامة ..

يعرف الرجل أن الموت حق على العباد ، وأن سفره إلى بلده لم يكن يقدم أو يؤخر في عمر أبيه ساعة .. لكنه فقط كان يمكن أن يراه .. يستسمحه .. ينكب على يديه ورأسه يقبلها قبل أن يفارق الحياة ..

يجيب ( المتولي ) بيقين العارفين : ( اللقاء نصيب )..

ولأنه يعمل في شركة محترمة تعطي لكل ذي حق حقه ، ولا تأكل أبدا عرق احد العاملين .. فلا مانع أبدا أن يتأخر هذا الحق شهور طويلة طالما أنه في النهاية مضمون ..

ولأن العاملون معه أو تحت رعايته .. يعملون في القطاع الخاص فلا تأمين لهم ولا معاش ، فإذا توقف الموظف عن العمل أو أوقف ، انقطع دخله إلا من ثلاث : رجل صالح يقرضه .. أو أن يسأل الناس إلحافا ، أو يسرق ليعول نفسه وأسرته ..

وما عدا ذلك فلا دخل له ..

ولأن ( المتولي ) ابن الشركة البار ، ورجلها الأمين فهو لا يضع نفسه أبدا مكان هؤلاء الكسالى الذين يمكن أن يوقفهم عن العمل .. وحتى لو أوقفوه فهو رجل حصيف وليس مسرف متلاف ، فله من الرصيد ما يعينه شهور حتى يحصل على ما هو أفضل ..

القرارات المصيرية بفرعه بيده ، فهو المسؤول عن التعاقد على مشروعات جديدة من عدمه ، وطريقة تنفيذه للعمل وتوزيعه للأدوار تحدد بشكل كبير نسبة الربح من الخسارة .. ولكنه مع ذلك رجل ديمقراطي يؤمن بالشورى ، ولذا يشرك جميع العاملين في المسؤولية إذا فشل في التعاقد على عمل جديد .. فيضحي بأصغر عامل في الفرع لأن راتبه يكلف الشركة ما لا تطيق ، ولأن العاملين معه جميعا مؤمنين ، والمؤمنون يسعى بذمتهم أدناهم !!

وهو رغم موقعه ومسؤولياته الجسام لم يغفل أبدا حلم جده وأمنية أمه .. فإذا أُذن لصلاة الظهر وهو بمقر الشركة ، وقف إماما يؤم العاملين خلفه في صلاة يحقق فيها المراد من اسمه ( المتولي )

دعا عليه ذات يوم أحد العاملين معه ، في مظنة ظلم ظلمه إياه : اللهم اجعل الدنيا في عينيه بسواد لون قلبه ..

لم يهتز ( المتولي ) وردد قوله تعالى ( وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ..

لا أحد يعرف على وجه اليقين كيف حدث الأمر !

هل تم بوشاية احد أعوانه .. أم حدث قضاء وقدرا ؟

عندما اكتشفت الشركة التي يدير ( المتولي ) أحد فروعها ، تزويره شهادته الجامعية ، كانوا باستطاعتهم تحويل الأمر إلى القضاء بتهمة التزوير في أوراق رسمية .. لكنها اكتفت بفصله من العمل ..

حاول جاهدا أن يبقى الأمر طي الكتمان .. هو بالتأكيد لم يخطئ ( العلم في الرأس لا في الكراس ) ..

لكن الخبر تسرب إلى كل العاملين في المجال ..

عاد ( المتولي ) إلى قريته ليبدأ من جديد .. هذا المساء زاره خطيب ابنته .. اعتذر له في خجل عن إتمام الخطبة لاعتبارات عائلية ..

عجيب أمر هؤلاء الشباب وهل النسب بالشهادات ؟

أخيرا وجد نفسه يجلس على باب الجامع الكبير بالقرية يتذكر أحلام جده ودعوات أمه وطموح أبيه ..