زيارة
زيارة
الحسين زروق
كانت الساعة قد قاربت العاشرة عندما وضعت جارتنا خالتي سعاد علي الغطاء وقد غادرت الغرفة تاركة إياي مع ابنتها إيمان دون أن تدري أن هذه الصغيرة لا يمكن أن تنام إلا مغلوبة، وأنها خضوعا لتقاليد منزل مضيف تضطر اضطرارا أن تساير.
أحسست أن حبُّوبَتي إيمان - كما أحب أن أناديها، وتبادلني التحية بأحسن منها – قد استسلمت لنوم عميق حالما عم الغرفة ظلام دامس. لم أسمع صوتا في المنزل فعرفت أن الأسرة كلها نامت. فتحت عيني باحثة عن صورة أو أي شيء يمكن أن يراه يقظان في فراش النوم في ليلة من ليالي مارس المتأرجحة بين الدفء والبرد الشديد.
لا يمكن لطفلة أن تنام وقد غاب والداها وأخواها غيابا مفاجئا ومفجعا خمسة أسابيع وأربعة أيام وعشر ساعات وثلاث دقائق وثانيتين. لا يمكن أبدا. لا يمكن ذلك لطفلة مثلي تفهم ما يقع أمامها بكل ما تعنيه كلمة فهم من معنى، وإن كان كبار كثيرون لا يصدقون، ولا يريدون التصديق، وليس لديهم الاستعداد لتقبل ذلك أو حتى لمجرد مناقشته. لا يمكن ذلك، ولاسيما أنها اضطرت اضطرارا وأيضا لصغر سنها أن تُخلي منزلها استجابة لرغبة عمها الذي لم تره يوما تفضل بزيارة أبيها أخيه الأكبر الذي تحمل مصاريف دراسته حتى صار موظفا كبيرا، وله سائق، وفيلا، وتزوج بنت الأكابر. كما لا يمكنها أن تنسى أنها لما فوجئت به في المنزل حاولت تقبيله كما كان يوصيها أبوها وأمها أن تفعل مع كل العائلة، وإن كان أكثرها قطع صلته ببيتها زمانا وغلَّق دونها الأبواب. كيف تنسى أنها لما همت بتقبيله صدها بيده رافعا أنفه ومشيحا عنها وجهه؟ سألته وقتها:
- عمي أين أبي؟
رد دون أن يدري أنه يحرق قلبا صغيرا:
- مات.
- وأمي؟
- أوف.. ماتوا جميعا: أبوك وأمك وأخواك، وكم كنت أرجو لو كنت معهم أيضا.
والتفت إلى السائق آمرا إياه أن يخرجني إلى الشارع لألعب مع الأطفال.
لو قدر لي يا عمي أن ألتقيك مرة أخرى لقلت لك ولكن بالأدب نفسه الذي علمنيه والداي وأساتذتي في المدرسة، ودون أن أرفع عيني في وجهك احتراما لذكرى والدي:
- لقد أحرقت قلبي الصغير لما أخبرتني بتلك الطريقة، مع أن أستاذتنا تعلمنا دائما أن نوصل الأخبار المفجعة بالعبارة الأكثر لينا ومودة، أن نختصر الكلام وندع لملامحنا المتعاطفة أن تعبر عما في قلوبنا. أن نفتح نافذة على قلوب الآخرين لنقول لهم: إننا نحس بمأساتكم، ويؤسفنا أن هذا وقع لكم، نود أن ذلك وقع لنا وسلمكن الله..آه ماذا نقول لكم صبّركم الله وآجركم. سأقول لك ياعمي: أحرقت قلبي للمرة الثانية عندما أمرت سائقك أن يخرجني إلى الشارع مع أن المنزل منزل أبي الذي لم تكلف نفسك منذ أن وظفت أن تزوره، وأنك أحرقته ثالثا لأنك تبلغني موت أسرتي ثم تطلب مني أن ألعب، كيف تلعب طفلة مفجوعة؟ لا لا يا عمي، لا أظن أن لك أولادا، لا يمكن، وحتى لو أُخبرت أن لك أولادا فلن أصدق. لن أصدق أبدا. لن أقول لك إنني عندما أُخرجت بكيت بكاء محروقا، وأنني كنت أرى الدخان الأخير من قلب قد شرع في الترمد. وعندما كنت أبكي...
سمعت حبوبتي إيمان تناديني:
- سناء نمت؟
لعلها لاحظت كثرة حركاتي، وتقلبي في الفراش، أجبت:
- لم أنم.
ورأيت شبحا يجلس، وأحسست بخشخشة غطاء فعلمت أنها اتكأت على مخدتها، وأنها لم تكن نائمة.
- لماذا لا تنامين؟
- لن أنام وأتركك مستيقظة.
- نمت بما فيه الكفاية عندما كان والداي وأخواي أحياء.
- يرحمهم الله.
قلت من أعماق القلب:
- آمــيــن.
ثم جلست، قلت:
- أنتظر زيارتهم.
تركت فراشها ودنت مني، أحسست بها تندس معي في فراشي، احتضنتها وبكينا، قالت:
- يرحمهم الله.
قلت:
- لا تصدقينني حبوبتي؟
عبثت بأناملها الرقيقة في شعري، أحسست بها تحاول أن تتأملني، لم تسعفها العبارة.
- عندما كنت أبكي خارج المنزل وحيدة جاء أبي ثم أمي ثم أخواي، جاؤوا واحدا بعد الآخر، كنت أود أن أحتضنهم بكل قوتي، لكني وجدتني أُشيح عنهم وجهي معاتبة:
- لن أُقَبِّلكم.
ابتسم أبي وأمي وأخواي أيضا الواحد بعد الآخر، قال أبي دون أن يترك ابتسامته:
- لماذا ياحبيبتي؟
- لأنكم تأخرتم.
ابتسموا أيضا تباعا، كوّنوا حلقة وحملوني إلى خالتي سعاد ثم وضعوني على السرير نفسه الذي كنت أنام عليه عند سفرهم. قبلوني واحدا تلو الآخر أيضا، وابتسموا ثم وعدوني وأنا أغالب النوم أن يزورونني ليلة كل جمعة، وأنهم لن يخلفوا الموعد.
سمعت حبوبتي تقول لي:
- الليلة ليلة الجمعة، هل سيزورونك؟
قلت:
- أجل.
وعندما رفعت عيني اتجاه الباب وجدتهم واقفين فقلت بفرح:
- ها هم، لقد أتوا.
شعرت بها تتسلل إلى سريرها وتغطي رأسها، فاقتربوا مني جميعا، وقبلوني جميعا، قبلني أبي في الأول ثم أمي ثم أخواي، ابتسموا أيضا تباعا، ودَعَوا لي، وطلبوا مني أن أبلغ حبوبتي وأسرتها سلامهم وجزيل شكرهم، ثم تراجعوا إلى الخلف:
- مع السلامة، نزورك الجمعة المقبلة بحول الله.
رفعت يدي أودعهم.. أودعهم، ثم مبتسمة نمت.