مملكةُ الغربان

عبد الكريم عليان

عضو صالون القلم الفلسطيني

[email protected]

كانا على موعد مع العشق .. لم تفارقهما خيالات اللقاء وما يترتب عليه .! في كل ليلة يأتيهما الحب المجنون ، ينام في صدريهما ، وبين أجنحتيهما الزاهية .. يباتا كل ليلة ، كل منهما يناجي الآخر .. حيثما يطلق قوس العشق سهمه ؛ فإحكام التدابير لا يفيد ، وحين يعمل قوس العشق متخفيا داخل القلب فإن عليه مائة دليل ودليل .. لا يمكن إخفاء العشق والمسك .. كانت الحمامة تكتم أمر عشقها ، وتزرع بذرة الأحزان في صدرها ، إلا أن عوكل كان يطل برأسه كل لحظة من موضع ..؟ ينمو ويترعرع داخلها ، فتنهمر من عينيها الدموع تسكب الدم .. كل قطرة تسكبها كانت تشكي سرها الدفين ، تتأوه أحيانا من لظى قلبها ، دخان آهاتها يشق طريقه إلى السماء .. كل آهة تخرج من فؤادها تشم الخلائق رائحة شواء قلبها .. في رحلتها الصباحية يلاحقها ظل عوكل ، ويلاحظن رفيقاتها ذلك ، يتهامسن ويتغامزن عليها ؛ فيزداد حبها لعوكل أكثر فأكثر .. طلعتها البهية كانت متميزة عنهن جميعا .. ترتيب شعرها ، ثغرها الباسم ، عينيها الكحلاوتين ، صدرها النافر ، زيها المدرسي .. كل شيء فيها كان يفضح سرها ..! يبقى عوكل ينتظر عودتها من المدرسة .. حين تخرج من الباب يلاحظ ألمها ، ومعاناتها .. يود لو يخطفها من بين قريناتها ويطير إلى حيث لا يراهما أحد ..؟ لا يحب أن يرى التعب والإرهاق من كدر الوقت الذي غاب خياله عنها ..

عوكل الذي كان يخاف الغربان أن يكتشفوا سر عشقه لمحبوبته ظل يناجي الخالق : يا إلهي ! لقد كنا طلقاء من صورة الوجود ، كما كنا أحرارا من خوف الفناء .. خلقتنا من العدم ، وقيدتنا بقيد الماء والطين ، خلصتنا من الضعف والعجز ، وأوصلتنا من الجهل إلى العلم ، امنحنا التوفيق في السعي لنسعى .. إذا كان العالم غريقا في ذنوبه مثل الجاهل ، فما الفرق إذن بين العلم والجهل ؟ يا إلهي ! لا تضيق علينا طريق العمل الصالح ، بسبب مكر النفس الأمارة بالسوء ، افتح لنا طريقا للرحمة في ذلك الضيق وتلك الآهات التي نحن فيها ، يا إلهي ! أنا ذلك الطائر الذي منحته الحب والسلام .. لماذا أسكنت الغربان بيننا بعد أن كانوا لا يعيشون إلا في الخرائب واليباب .. كيف لي أن أحظى بلقاء محبوبتي ؟ وهذه الطيور الجارحة تترصدني حيثما أحط وحيثما أرحل ؟ يا إلهي ! ليس هناك بين الخلائق عاشق مثلي ، وليس بين العاشقين محروم مثلي .. ارحمني .. افتح أمامي باب المحبة .. ما لم تضع الحبيب في حجري لا تدعني أسير مخلوق آخر ، لا تمزق جناحي بالفضيحة ولا تلوث ذيلي بأفواه الغربان .!

ظل عوكل يترقب حبيبته وهي تطل من عشها المحاصر .. كان لا يفارق العش يتنقل بين أغصان الشجر ، عيناه لا تفارق العوازل من جهة ، ولا تفارق عش حبيبته من جهة أخرى .. عله يجد اللحظة التي يخطف بها حمامته دون أن يراه الغربان .. ويطير بها إلى البعيد .. هناك ! يمارس معها الهديل وفطرة الله .. لم يسعفه الحظ كثيرا .. فعيون الغربان وأعوانهما في كل مكان ينتشرون على كل الأشجار والمفترقات ، يفرضون قوانينهم الغريبة ..! يرفضون ويحاربون كل ما يمكن أن يعكر صفو انتصاراتهم الوهمية ..؟ كل طير يرف بجناحيه في غير ما حدد له ، يلقى ما لا يرضيه .. بالكاد لهذه الطيور أن تمارس طقوسها وفطرة الله لها .. إنهم ضد قوانين الطبيعة والخلق .. لا يأكلوا مما تأكل منه الطيور ..؟ ولا تعجبهم ألوانها الزاهية ، فقط يعجبهم اللون الأسود ومناقيرهم الحادة ، ومخالبهم القوية .. إذا غنى البلبل يفترسونه على الفور ، وإذا صاح الديك يحبسونه طويلا .. يا إلهي ! بعد أن انتصر الغراب ، أصبحت الطيور في ضنك من العيش ، وألم من المعاناة ، وتعقيدا في عبادتك وتسبيحك ..! يا إلهي ! خلصنا من الشر ، خلصنا من القيد ، لنعود مخلصين ، محافظين على قوانينك ، إليك مرجع الأشياء وإليك المصير ..

انتهز عوكل ساعة تبديل الجيش والاستراحة ليطير بحمامته الجميلة إلى الشاطئ ، يخلو بها عن عيون الحساد والعوازل .. هناك سيفشي لها سره الدفين ، هناك تسرد عليه همومها وأحلامها الوردية .. هناك سيعلنان ميلاد أنشودة للفرح .. وصل عوكل وحمامته مكانهما المنشود .. بدآ معا تعويذة الحب ! كان هديلهما ترانيما للصلاة ، وتشكرا للخالق .. التصق الطيران يبعضهما كقطبي مغناطيس ! غفيا عن الوجود .. لم يصدر عنهما إلا أنين الحب وبكاء الفرح .. دموعهما انهمرت شهدا وقبسا منيرا .. النور المتوهج أيقظ الغربان البعيدة ، رائحة الحب التي لا تعجبهم كانت الدليل في القبض على عوكل وحبيبته .. أوصدوا الأغلال في أرجلهما وأجنحتهما وحملوهما إلى السجن البغيض .. سأل رئيس السجن : من هذين ؟ قيل : أخلا بقوانين وآداب المملكة .. قال الرئيس : إن الرب قد منحنا حكم هذه البلاد وعلينا توطيد الأمن والرخاء لأهلها .. ثم قرر الرئيس أن يتعذبا في زنازين كل على انفراد حتى يتأدبا ، ويكونا عبرة لكل الطيور التي على شاكلتهما ...!؟