عيون بلون الأشجار (2)

م. زياد صيدم

[email protected]

بمرور الأيام ، بدأت تقوى علاقة احمد بسناء عبر الهمسات الدافئة وعذب الألحان ورقة الكلمات المتبادلة بينها، فهي شاعرة مدهشة ومرهفة  فياضة العواطف رومانسية التعبير والإيحاء وزاد من وقع حلاوة الروح واللحظات الجميلة عندما كشفت سناء عن عينيها الخضراوتين بسحرهما الفاتن، فقذفت سهامهما قريب من قلبه النابض حتى لامسة برفق وحنان، فسناء التي فاضت منها سحر المعاني كانت قد وجدت هدفها في أعماق عقله،  فكلاهما ينتمي إلى فئة مميزة من البشر تبحث عن دفيء الشواطئ للنوارس المحلقة، ومنارة تهتدي إليها السفن التائهة ، وألحان لأبيات شعر في انتظار أن تعزفها شفاه المحبين ..

في ليلة هادئة لا حراك في شوارع تتلوى بين الأحياء الغارقة في العتمة، حيث أطفأت أنوارها المساكن وخلد الجميع إلى نومه ، كان الاثنان ما يزالان عبر الأثير ينثران معا شذى من ألحان الكروان من خلال همس شفاههما، وانفلات كلماتهما عبر الآلة العجيبة  لتنتقل بلمح البصر إلى شاشة مضيئة تجلو ظلمة المكان ، ولكن الأهم بالنسبة لأحمد كان متمثلا بومضات تضيء  أعماق قلبه الحيي ، المفعم برومانسية نجح دوما في إخفائها خلال نهاره في مجتمع لا يرحم تملك الجدران فيه آذان وعيون ؟.. وفجأة من بين الكلمات برزت تلك الكلمة التي أصبحت التعبير السريع والسهل المتداول بين العاشقين والمحبين والسهارى ، تلك الكلمة التي يهفو لها قلب أم حنون إلى طفلها وتلك الابنة لأبيها وذاك الحبيب لحبيبته، كلمة انبثقت بين السطور وكررتها سناء في لحظات بوح طفولى عبر عن صدق اللحظة والشعور المنهمر بينهما ، كان وقعها كزلزال هز شعوره وأيقظ في وجدانه الذكريات والماضي البعيد القريب !، كان أشبه بالشيء المنبثق من غيمة شتوية انشقت من ثناياها بريق برق كالصاعقة ، تلاها صوت الرعد مدويا في أعماقه، فشعر كأنه أصبح هباءً متناثرا ما بين الأرض والسماء ، معلقا  هناك بين الكواكب حيث اختفى القمر وبهت ضياء الشموس من شدة لمعان النجوم..

لقد اجتاحت سناء عاطفة  قوية فكتبت وعبرت عن حبها بصدق وعفوية لأحمد، الذي ما يزال يُرسل بأحاسيسه ومشاعره مكتوبة من خلال أنامله على أزرار جامدة ،كان يلامسها برفق وحنان كأنه يداعب خصلات شعرها المنساب على أكتاف حبيبته فلا يخدش رقة أنوثتها، يحاول أن يبعد تلك الكلمة عن شفتيه لا يجد تفسيرا لذلك سوى خوفه من ضياع ما تبقى من جانبه المضيء من قلبه، فلا يستطيع بعدها الخفقان فيكون قد كتب على نفسه الشقاء ، وهو الذي وجد في سناء ما ينشده كل عاشق للحياة وللقيم الإنسانية الخالدة ،لكنه يأبى البوح عن أسراره الدفينة حتى يبقى على ماضيه الحافل طي الكتمان ، مما تسبب في شعوره بإحراج مؤلم على نفسه.

 انتظرته ليردها لها .. فكان الصمت رده ، ثم ما لبث وان بدأت أصابعه تستمد حركتها من إشارات هي نبضات قلبه التي بدأت تسرع من خفقانها مفعمة بمشاعر وعواطف، انهمرت تترائي على الشاشة أمامه سطورا يكتبها بصدق اللحظات وعنفوان الرغبة بلقائها، فهو لا يريد أن يجرح كبريائها وكرامتها ، فهي الآن بالنسبة له إحساسه الجميل الذي ينشده ويعيشه أوقات صادقة تمده بذاك الإكسير العجيب من فرات وعطاء ، فماذا يفعل ولم تخرج  بعد من بين عباراته كلمة تنتظرها سناء، بل أنها تطلبها منه لتلخص لها معاني فيض مشاعره وعواطفه المتدفقة كنهر جارف في وجودها معه ، فهي تشعر بذلك كما هو ، لكنها لن تعلم بان قصة حب جارف عصفت به لشهور طويلة أفقدته توازنه منذ أن كان يشق طريقه وسط زحام غربته  التي غيرت مجرى حياته لاحقا، إنها  قوة غريبة تمتلكه جُبلت من خوف ما يزال رواسبه عالقة في عقله ، رواسب الماضي  بحكاياته وأفراحه ومآسيه وبألوانه المتعددة ، يخاف  الآن أكثر من أي وقت مضى ، فقد انطفأت الشموع  داخل جانبه الآخر من قلبه بعد تلك التجربة  ، فأصبحت على أثرها كل علاقاته تغور في أعماق الجسد  بعيدا عن الروح وسموها الإنساني والذي يميز البشر عن غيره من الكائنات التي تدق فيه نواقيس الوجدان العذبة، وتتفتح فيه بساتين الأمل وتزهر فيه حدائق تخلب العقول جمالها وشذاها...

لكن الشيء المؤكد لأحمد انه في تلك اللحظات السعيدة والحالمة، كادت أن تخرج من بين شفتيه وتنطلق كلمة ما ؟.. وقبل أن يهمس بها متجاوزا فلسفة خطها لنفسه ظلما وعدوانا بحق ذاته ليبادلها فيض مشاعرها .. كان الاتصال قد انقطع فجأة بينهما!، فحتى القدر حال دون تحقيق ما تمنته سناء في تلك اللحظات الرائعة، وضياع فرصته في تجاوز خطوط رسمها في وجدانه.

فماذا سيكون منه في اللقاءات القادمة كردة فعل طبيعية ، فهو يعير للذوق شأن كبير فقد هذبته الأيام والسنون والتجارب وتعدد الثقافات وكثرة الأسفار ، فلا يمكنه  أن يبقى حبيس مخاوف من الماضي ، تحول بينه وبين سخاء وعذب تلك الكلمة الخالدة في قاموس العلاقات الإنسانية على مر العصور... من يدرى ؟،  فالأيام والأماني قادمات تعانق الأشواق لهيبها .!!

إلى اللقاء.