جُدرَانُ الخَوْف
يشعر بالضيق الشديد، يحيط به شعور خانق بأنه مطارد، وأن هناك من يلاحقه، لا يستطيع أن يجيب على أسئلته الطارئة "من، لماذا، ولم أنا" لا يعرف كل ذلك ولكنه يشعر بذلك ... يتحسب لكل حركة يقوم بها وينظر للخلف كثيرًا تتسارع خطواته عند شعوره بالخطر في كل صباح هذا الموقف وتلك الظلال المتباعدة، يتكلم مع نفسه هل هي صدفةٌ ذلك الشخص الذي يراه بكثرة في الآونة الأخيرة... يتوقف قليلًا ويأخذ نفسًا باردًا في صباحٍ ضبابي قاتم ويطرد تلك الأفكار من رأسه، ويقول لنفسه الأرجح أنني أرهق نفسي بالعمل.. عليّ أن آخذ إجازة قريبة
دخل المستشفى بإجراء اعتاد على تكراره كل عام، ليقوم بفحوصٍ عامة ويطمئن على صحته أصدقاؤه يصفون هذه الحركة بالحرص الزائد والوسوسة المرضية التي يجب أن يتركها ولكنه مقتنع بذلك فصحته أمانة بين يديه مهما سخر منه الرفاق.. دخل بكل هدوء من البوابة الكبيرة ولكن قلبه انقبض فجأة لم يسترح لهدوء قاعة الاستقبال فقد أصبح منذ أشهر يميل للأماكن المزدحمة وقل ما يقضي جزءًا من يومه منفردًا... بدأت الشكوك تزحف نحو مخيلته وتلقي بظلالها السوداوية عليه وعلى تفكيره، حاول طردها كثيرًا لكنها تعود... يتقد ذهنه بعشرات الصور المتتالية ويسترجع كل شيء..
دولاب سيارته الفارغ.. تلك العيون القاسية التي تختفي خلف النظارات السوداء والجرائد ظلال تتابعه وتسجل سكانته بل وتحتسب عليه أنفاسه... عامل التوصيل وتلك الأسئلة غير المبررة عند كل طلب حتى توقف عن الاتصال بهم.. سائق الأجرة وأسئلته التي توحي بأنها تحقيق أكثر من حديث عابر يدخل في التفاصيل ولا يتوقف عن العموميات يطلب منه بشيء من العصبية أن يتوقف هنا يلقي له بالمال ويهرول هاربًا ... بدأ قلبه يرتجف ونبضاته تزدحم في جوفه، جبينه يتصبب عرقًا باردًا، يشعر بأن الخطر يحدق به تطوقه خيالات الموت من كل جهة، نظراته خالية من أي معنى...
يملأ الأوراق أمامه على عجل يترك الخانات التي لا يظن فيها فائدة، المعلومات الأساسية الصحية ما تحتاجه المستشفى وليس أي شيء آخر، يتجه صوب قسم التحاليل أرشده إليه الممرض بكل دماثة وبعض الاستغراب من الشحوب الذي علا على وجهه وجبينه، سيدي هناك سيؤخذون بعض عينات الدم، ليس بالأمر الصعب طاقمنا حريص على راحتكم قدر الإمكان...
وهو في طريقه للقسم يلمح بطرف عينه اليمنى ظلًا ضخمًا يتبعه، يتوقف قلبه لجزءٍ من الثانية، هل سيقومون بذلك هنا في المشفى... يبتلع ريقه بكثير من الصعوبة كأنها أشواك، تتسارع خطواته ويحثّ المسير فينسى اتجاهه ووجهته...
يهيم على وجهه في ردهات متصلة لا تنتهي، يدخل قاعة ويخرج من أخرى، جسدٌ مضطرب وعيونٌ غائمة بلا هوية والصفرة تنقش تواشيح مؤلمة على بشرته، ووجهه يسطّر حكاية من الرعب لا تنتهي، كلما ابتعد الظل عنه يشعر بأنه يقترب أكثر... يحترق ألمـًا ويتحسّر كيف قرر اليوم أن لايقود سيارته لكي يريح نفسه من عناء الانتظار والزحام، لو كانت السيارة بحوزته لاستطاع الهرب أسرع، يعض على شفته السفلى بحرقة ولا يرى أمامه إلا بابًا مشرعًا والأفق مسدود.
يدخل في غرفة فارغة ويغلق خلفه الباب، أزيزه صمّ أذنيه وشعر بحالة من الهلع غير محدودة لم يشاهد بفظاعتها في فيلم أو مشهد تمثيلي، يغلق الباب على نفسه ويكاد يذرف آخر ما في روحه من ماء الحياة... كيف ولماذا ومن هم ولم أنا...من المستفيد يا ترى... لم يعد يعرف ماذا يفعل، يتذكر هاتفه المحمول في ثنايا سترته يخرجه بكثير من الاضطراب يحاول الاتصال طلب أي رقم، أصابعه لا تطيعه ترتجف ولا تستجيب يكرر المحاولة، يداه آلة صدئة عفا عليها الزمن...
يسمع وقع الخطوات من البعيد تسير نحو الغرفة، يشعر بالخدر يسري في جسده لم يعد يستطيع تحريك قدميه أضحت مسمرة وهو حبيس فيها، يكتشف الآن أنه في غرفة أحد الأطباء من أثاثها والمكتب النظيف الذي على الجانب، وسرير فحص المرضى الموضوع على جانبٍ آخر، يتمتم ويقول سأقتل هنا... دقات قلبه المرتجفة، صدره يعلو ويهبط أنفاسه متهدجة يخيل لك أنه يركض من الأزل، مقبض الباب يبدأ بالتحرك، صرير يصم الآذان مع أنه لاصوت له في الحقيقة، شبح أسود ضخم لا يرى معالمه من الضوء القوي القادم من الخارج، يكاد يقع مغشيًا عليه ولا يعلم كيف بقي واقفًا...
يفتح عينيه بكثير من الصعوبة، يقترب منه ذلك الضخم قوي ذو عضلات بارزة تظهر من خلف رداء الأبيض، يمد يده التي تحمل في طرف الأصابع شيئا ما، دمعة حبيسة تنفلت من غير إرادته شفتاه غير قادرة لا على التوسل أو الرجاء يسكت ولا ينبس بكلمة... ينطلق في حديثٍ مع نفسه، هل سيطعنني أولًا، أم يتلذذ بذبحي ويحز رقبتي بتلك السكين الصغيرة السوداء، أم هو من المجرمين الذين يتلذذون بموت ضحاياهم البطيء، عشرات طرق الموت البشعة التي لو فكر فيها العقل الهوليودي لأنتج أكثر الأفلام رعبًا في التاريخ..
لحظات صامتة تمامًا، لا صوت إلا لعربة المرضى في الردهة البعيدة، وآلة متلبعة القلب في الغرفة المجاورة، وصوته وهو يبتلع رقيه، هل هي آخر لحظاتي في الدنيا يتساءل ويغمض عينيه وينتظر قدره...
يستيقظ من خيالاته على صوت ينم عن تهذيب بالغ، يقول له: سيدي لقد تركت قلمك عند الاستقبال، تفضل هذا هو، وهذه الغرفة مخصصة للأطباء، سأرشدك لمكان غرفة الفحص، تفضل معي رجاءً، لقد أتعبتني منذ نصف ساعة وأنا أحاول اللحاق بك لأعطيك القلم وأنت تركض... ينطلق بضحكة عفوية يعتدل بعدها قليلا.. ويصمت...
لم يتمالك نفسه ويسقط على الأرض.. قدماه ما عادت تستطيع حمله، يلملم شعث نفسه ويتجه مع الممرض صوب قسم التحاليل، يسير كأن هناك من يسنده يشعر بأن كبرياءه قد تحطم، يلوذ بالصمت عله يجيب عن سؤاله المحير "لماذا"؟...
أيام عدة أمضاها "زيد" يفكر ويقلب حاله وتلك الوساوس التي جرفته بعيدًا وقلبته رأسًا على عقب، لقد عاد للصلاة بعد انقطاع أكثر من عامين وجد فيها راحة ولذة عجيبتين، لم يجرؤ على الصلاة في المسجد القريب، فهو خجل من إمامه، فكثيرًا ما دعاه الشيخ لينضم إليهم في الصلاة خلال غدوه ورواحه، ولكنه يعتذر باقتضاب وحجته الدائمة مشغول ادع لنا...
تصرفاته بعد ثلاثة أشهر أضحت أكثر عقلانية واتزانًا عادت البهجة تسري في حياته، يزور قريبًا، يسهر مع الأصدقاء عادت دعاباته المحببة تضحك الحاضرين، عادت تلك الهالة التي فقدها منذ زمن في العمل لقد كان محط الأنظار ومحرك العمل والإبداع... آآه كم ترك نفسه وغيبها خلال تلك المرحلة، حاصر نفسه بجدران سميكة من الخوف... خوف كاذب مصطنع أوهام صنعتها نفسه، وروحه الجائعة للطمأنينة والأمان والفراغ الذي اختاره بانسياقه وغفلته، تناول المصحف تنهد بكل دفئ قرأ من كل جوارحه {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
رفع عينيه للأعلى وتمتم {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاع إذا دعان}...
وسوم: العدد 628