من أجل الجزائر

يستعيد ما سمعه وما رآه : حديث المدرس الشيخ المعمم عن واجب التبرع لشعب عربي شقيق في بلد اسمه الجزائر . أول مرة يسمع بهذا الاسم وبمحنة شعبه من الاستعمار الفرنسي . من فرنسا التي سمع وهو في الصف الأول أنها اعتدت مع بريطانيا وإسرائيل على مصر ، إسرائيل التي يعرف أنها شردتهم من بلدتهم بئر السبع ، وأنها احتلت قطاع غزة حين كان في الصف الأول ، وشاهد جنودها ، وسمع عن مجازرهم  في خانيونس ورفح . أعجبه قول المدرس : " لا تسموا ما ستدفعونه تبرعا ! لا أحد يتبرع لنفسه . ما نقدمه لإخواننا في الجزائر نقدمه لأنفسنا " . يستعيد صور التلاميذ والتلميذات ، أبناء الإعدادية ، الذين انطلقوا في الشوارع والأحياء وعلى الأذرع شريط أحمر مكتوب عليه بخط أبيض " تبرعوا للجزائر " . ود من قلبه لو كان واحدا من المنطلقين ، واستحضر مغتبطا ما فعله حين همت تلميذة بطرق باب بيت ، فسبقها وطرقه ، فابتسمت وقالت : شاطر !

انحسر حديث المدرس ومشاهد التلاميذ والتلميذات . بم سيتبرع لإخوانه في الجزائر ؟! غمت قلبه سحابة هم . شخصيته ، نفسيته ، تمقت التقصير في الواجب . التبرع للجزائر أكبر واجب واجهه في ثماني سني عمره . زوجة عمه ، على بخلها ، قد تتبرع بمبلغ صغير لو وجدت من يشرح لها الموضوع شرحا حسنا يبين لها أن أهل الجزائر مسلمون  ابتلوا بعدو مغتصب ظالم ، وأيقنت أن المبلغ الذي قد تجود به سيقدم حقا لحملة التبرع من أجل الجزائر، وأنه لن يخص به نفسه  . دائما تتهمه بسيئات ليست فيه ، وتنكر محاسنه التي يقر بها  الجميع . يحس بأن  في قلبها جذورا دفينة من كرهها لأمه التي كانت تتخوف من أن يتزوجها عمه ضرة لها بعد وفاة أبيه . واختفى عنها الخطر بعد أن أخذ خاله أمه ، وسمع بعد ذلك أنها تزوجت . وأخذه عمه ليعيش معه ومع زوجته التي لم تنجب رغم مرور سنين طويلة على زواجها . مقت زوجة عمه لأمه لم تبرد  ناره في قلبها . طيب ، هبه أقنعها بالتبرع ، أين تبرعه هو ؟!  لا يحس بان تبرعها لو تم سيكون تبرعا منه . لو كان المتبرع عمه لما أحس نفس الإحساس . كيف لا يتبرع لإخوانه الذين يقتلهم الفرنسيون ؟! وصل البيت والشمس في غروبها . رآها جهمة الوجه كالعادة حين يعود من المدرسة ، واتهمته بالتأخر في العودة متعمدا حتى يتجنب تكليفه بلم العشب لعنزاتها الثلاث .  جنون أن يفاتحها للتبرع  في هذال الجو المكفهر المتوتر ، وعمه غائب يعمل مع شركة فلسطينية تمد الطرق في سيناء . ونام على فكرة . يجب أن يتبرع للجزائر ، لإخوانه ضحايا الاستعمار الفرنسي المتوحش مثلما قال المدرس الشيخ  الذي قلما يراه دون جريدة في يده .

في السحر ، قبل صحوة زوجة عمه ، أقحم يده في قن الدجاج متحسسا البيض بين غابة أرجلها المتلاحمة ، وأفزعته قطقطاتها التي قد تُصحي زوجة عمه من نومها حاسبة  أن كلبا أو واوية سطا أحدهما على الدجاج . انتزع أربع بيضات ملتفتا إلى الجهة التي قد تفاجئه منها . لم يسمع لها حركة ، ولم ير لها شبحا في غمامية السحر . وأسرع بكنزه الغالي إلى خط من نبات العاذر يفصل بين الأرض التي يسكنون فيها والأرض التي يسكن فيها جيرانهم ، وخبأ البيضات في عاذرة بدت أطول وأكثف أعوادا . ومر الوقت قبل ذهابه إلى المدرسة بسلام عصفت فيه به وساوس خوف وقلق من اكتشاف ما فعل . لم تذهب زوجة عمه إلى القن لأخذ البيض . عادتها أن تأخذه  كل   ثلاثة أو أربعة أيام . صدفة بهيجة أن اليوم ليس الثالث أو الرابع . وفي طريقه إلى المدرسة ضحىً حشر البيضات بين كتبه ودفاتره في حقيبته القماشية الزرقاء . وفي الحصة الأولى شرع كل مدرس يجمع من التلاميذ ما تبرعوا به . وتفاجأ المدرس بفتحي يقدم إليه قرشين هما ثمن البيضات ، ولم تمتد يده لأخذهما . وفزع فتحي . لا يمكن أن يكون المدرس علم بمصدر القرشين ، لا يمكن ، فما باله لا يأخذهما منه بنفس سرعة أخذه تبرعات التلاميذ الآخرين ؟! وزاد من مد يده ، وقال : خذ يا أستاذ !

فسأله بشفقة : من أين لك القرشان يا ابني ؟

 هذا مدرس الحساب ، ويعرف مثل غيره من المدرسين والتلاميذ حقيقة حاله . وتردد فتحي ، ثم أجاب : من عمي .

_ اصرفهما على نفسك !

_ الجزائر أحق مني يا أستاذ !

ورمى القرشين فوق كومة النقود المعدنية أمام المدرس .

وسوم: 634