أبو الشهيدين

الدنيا لا تسع مسرته ! ها هو في سبيله مع أبيه إلى بلادهم التي سرقها اليهود بالنار ، وشردوهم منها ، وصار اسمهم لاجئين . ولد بعد اغتصابها بسنة . برد أول الليل محتمل ، فالوقت منتهى مايو ، وأنفاس الصيف تشعشع الجو ، ومسرته تثري قوة تحمله للبرد الخفيف ، وإن كان لابسا جلابية دون سترة . قبل أسبوع ، صباحا ، رفع رأسه من نومه ، فبصر أمام بيتهم الشعر بكومة من القمح الناضج السنابل ، فالحصاد يقترب ، وبعض الناس بدؤوه . سأل أمه من أين جاءت الكومة ، فأنبأته مبتسمة بحزن أنها من بلادهم ، وأن أباه جلبها ليلا مغامرا بحياته مع صاحب له كان جارهم قبل تشريدهم من بلادهم . وحذرته من الحديث لأي إنسان حول ما فعله أبوه وصاحبه . قالت : لو علمت الحكومة ستسجن أباك .

ووجد نفسه ظهيرة يسأل أباه أن يصحبه معه إلى بلادهم إن ذهب إليها ثانية . وحدس أبوه أن أمه هي التي أنبأته بمصدر الكومة ، ولامها ، فحلف جندي أنه لن يخبر أحدا ، وسأل مستنكرا مستبعدا : أخبر عنك يا أبي ؟!

فابتسم الأب ولم يتكلم . وعاود جندي طلبه ، فوعده الأب بالاستجابة ملحا عليه في كتم السر ، فحلف جادا بأنه لن يبوح به . وهاهما ، بعد أسبوع من التسلل الماضي في سبيلهما إلى بلادهم يركبان حمارتهما السوداء . جازا بطلل دار طينية ، نزل الأب عندها ، وقرأ الفاتحة ، وأجاب جندي حين سأله عن سبب قراءتها عند هذه الدار الخربة الخاوية السقف : قرأتها على روح جنود مصريين أحرقهم اليهود في هذه الدار في حرب 1956 .

فوثب جندي نازلا وقرأ الفاتحة ، وختمها داعيا : الله يرحمهم !

عطفتهما سبيلهما شمالا ، ونزلا بعد خطوات يسيرات وراء بيت طين يوازي السبيل في جانبها الشرقي . قال الأب : ابق حتى أكلمه !

وحدس أن أباه يعني صاحبه الذي قالت أمه إنه كان جارهم قبل تشريدهم من بلادهم ، وإنه تسلل معه لجلب القمح .

دقائق ، وبدا الاثنان في نور القمر . صاحب أبيه يقود حمارة بيضاء . توقف الاثنان غير بعيد منه ، وسمعهما يتحاوران

. قال الرجل القصير : كيف تأخذه معنا ؟! صغير .

قال أبوه : أصر .

_ توافق لأنه أصر ؟!

_ سيحزن ويبكي .

_ يبكي ولا يجري له شر .

_ إذا جرى له سيجري لنا .

_ اتركه مع أولادي  !

_ تحيرنا .

_ مشينا . على بركة الله .

تألم جندي وخجل لإحراجه لأبيه ولصاحبه . في ذلك الحين ، 1959 ، كان سهلا اختراق الحدود ليلا والعودة غالبا بسلام لانعدام المواقع العسكرية الإسرائيلية الثابتة . كانوا يكتفون بمرور دوريات راجلة أو مؤللة بين وقت وآخر . ولم تكن على الحدود موانع من أي نوع . وفي الجانب الفلسطيني منها ، معسكر كتيبة هندية من قوات الطوارىء الدولية ، ولم تكن عناصرها تراقب الحدود ليلا ، وسهل كل ذلك تسلل بعض الفلسطينيين لجلب ما يستطيعون جلبه من أغمار القمح الناضج ، وقصل الشعير الأخضر طعاما لماشيتهم . وبعضهم كان يجلب الأنابيب التي يمدها المستوطنون لري الزراعة . ومن التسللات في ذلك الحين تسلل الفدائيين لجمع المعلومات وتدوين الملاحظات عن الأماكن التي يبلغونها ، ولكنهم توقفوا عن قتل المستوطنين والجنود الإسرائيليين نقيض ما كانوا يفعلونه قبل حرب 1956 ؛ لأن ذلك سيكون مخالفة رسمية لاتفاق دخول القوات الدولية لقطاع غزة بعد تلك الحرب . وكانت الإدارة المصرية للقطاع تعاقب أي مدني يتسلل إلى ما وراء الحدود .

ساروا راكبين الدابتين في وادٍ يسيل شتاء حسب أوقات وكميات المطر ، ويجف صيفا ، ويغذي في مسيله  واديا في الجانب الفلسطيني يطرح حمولته في البحر . الأرض تتحدى مغتصبها  وتأبى إلا الوصال والعناق حين تلتقي ذراتها المجلوبة في دفق السيول . ويعرف والد جندي وصاحبه المنطقة في الجانب الذي صار إسرائيليا اغتصابا واعتداء ، وكلاهما له فيها عشرات الدونمات ، وكل سكانها أقارب وجيران . والقمح الذي جلباه المرة الماضية كان من أرض والد جندي . صار المغتصب مالكا ومزارعا ، وصار الاثنان لاجئين مشردين يسطوان  في سواد الليل على مواهب وخيرات أرض كانت لأحدهما قبل أحد عشر عاما . تغلغلوا حوالي نصف كيلو متر في الوادي الذي تكاثفت فيه الشجيرات والحشائش كثافة صفيقة متلاحمة يسمعون صوت احتكاكها بالدابتين ، ويتخوفون من أن يسمع حركتهم كمين طارىء لجنود إسرائيليين . ودهمهم القمر المكتمل مؤتلقا نضرا صاعدا من حجر الأفق ، لا يبالي ما انتثر حول مسراه من رقائق الغيم . وارتقوا انحدارا منبسطا في جانب الوادي الأيسر يوازي صدعا  قصيرا لا تناسق ولا استواء فيه . وانفسح أمامهم حقل قمح . قال والد جندي : هذه بلادنا يا جندي ! رأيتها ؟

انقضوا يحصدون ، وانصرفت الدابتان تأكلان من القمح .وفي ثلث ساعة حصدوا ما تقدران على حمله ، وربطوه عليهما ربطا موثقا مشدودا ، وعادوا في مسارهم ماشين . وعوت في الجنوب بنت آوى ، وجاوبها في الشمال أكثر من عواء من بنات جنسها . نزلوا الوادي ، وفجأة توقفت الحمارة البيضاء السائرة في المقدمة ناصبة أذنيها ، محدقة في فزع في ما أمامها ، وارتجفت القلوب تفزعا وتوسوسا ، وتنفسوا تنفس الفرج والأمان حين وثب ثعلب يرتقي يمنى الوادي . واصلوا مسيرهم صامتين . وقفزت من غمارة الشجيرات والحشائش أرنب ، وانقذفت تعدو أمامهم محدثة صخبا يسيرا ، وانقذف جندي خلفها ونداءات أبيه المكبوتة تلاحقه . صرخ : عيني يا أبي !

وهوي يتلوى ويتوجع .ولحقا به . وجداه قرب عوسجة .

قال صاحب أبيه : قلت ، ولم يُسمع كلامي .

أسرع إليه أبوه يضغط على صوته : لا تصرخ ! سيسمعنا اليهود .

تأوه : عيني يا أبي !

رفعه وتحسس عينيه . أحس بللا ولزوجة في عينه اليمنى ! دم ! يا للبلاء والهم !

حمله مرتاعا منفجعا ، وتابعوا سيرهم يسرعون . وبعد يومين من العلاج صارحه الطبيب بأنه لا أمل في شفائه .

                                                  ***

حدثني بما حدثتكم به جندي نفسه في حديقة المستشفى الذي نقلت للعمل فيه من شهر . كلانا ممرض .

سألته : لو طاوعت والدك وصاحبه ما صرت ...

وجذبت لساني قبل أن يكمل " أعور" ، فحملق في بعينه الوحيدة باذلا جهده لصد استنكاره الغاضب ، وقال : أبخل على فلسطين بعيني ؟! كفى عيني التي فقدتها ...

ووجه سبابة يمناه إلى مكان عينه الراحلة ، وأتم : أن أرض أجدادي آخر ما رأته . تعرف اسمي عند الناس ؟

_ ما هو ؟

_ أبو الشهيدين .

_ استشهد لك ولدان ؟! عوضك الله !

وسوم: 636