خيط دم

هضبة رمال في نعومة الحرير ونقاء البلور . كتل من الأسر والأفراد منثورون على صفحتها متباعدين . هربوا من المناطق الدانية من الحدود حيث قذائف المدفعية والرصاص المنهمر من القوات الإسرائيلية ، والأنباء عن توغل تلك القوات ودخولها بعض مدن قطاع غزة وقراه . برد منتصف الليل باغت الهاربين . الوقت صيف ، ليلة السادس من يونيو . لعله ارتفاع المكان ، وقربهم من البحر . الهضبة وما يجاورها من كثبان رملية ومخافض بعضها طيني تسهل فيه الزراعة ؛ كتب لها أن ترى حوادث تاريخية كبيرة . ها هي ترى مئات الهاربين من نيران الحرب . وبعد التشرد في حرب 1948 نصبت في جوارها خيام بعض اللاجئين الذين تفرقوا تاليا ، وسكنوا في أماكن أخرى في منازل بسيطة من صنعهم ، وبعضهم سكن في بيوت ثابتة بنتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين .وفي الحرب العالمية الأولى تحشدت فيها القوات البريطانية القادمة من مصر نحو غزة لمقاتلة القوات التركية فيها . وعلى مئات الأمتار منها ، في جنوبها الشرقي ، تل يسميه الناس التل الأسود لتؤلفه من معلبات أغذية الجيش البريطاني التي صدئت واسودت مع توالي الأيام والليالي . النقاشات لا تتوقف بين كثيرين . كيف انفجرت هزيمة العرب بهذه السرعة ؟! كيف انتصرت إسرائيل الصغيرة في لمحة برق ؟! هل من أمل في تحول مفاجىء لأحداث الحرب ؟! هل لدى بعض العرب سلاح سري يقلب مسار هذه الحرب الصاعقة ؟! أطفال يبكون جائعين ، وما من طعام . بعض الناس ينظرون شمالا وجنوبا تنقيبا عن مشاهد الحرب التي بان من ساعاتها الأولى أنه لا تناسب بين طرفيها . هدير الطائرات الإسرائيلية العائدة من القتال في سيناء يتصل كاسرا للقلوب جارحا للعيون . عائدة لقواعدها سالمة ظافرة ، وستنثني إلى الجبهة بحمولة هلاك جديدة . في البعيد ، شمالا ، في حدود مدينة غزة الشرقية ، نزال  بين المدفعية الفلسطينية والمدفعية الإسرائيلية . القذائف المنطلقة بوهجها في الاتجاهين المضادين تصدم القلوب والعيون .  القذائف الإسرائيلية تفوق الفلسطينية غزارة . يذكر راشد ما حدث معه ضحى أمس ،الاثنين ، حين ذهب إلى موقع فلسطيني على الحدود . الموقع بلا خنادق  أو تحصينات . سبعة جنود وقائدهم بين شجرات لوز . أسلحتهم  بنادق ورشاشان وعدة قنابل يدوية . شجعهم بكلمات ، وقبل أن يفارقهم ، انبسطت موجة عريضة هائلة من القذائف والرصاص من الجانب الإسرائيلي . ورد الجنود الفلسطينيون . واختفى صوت رصاصهم القليل الهزيل في خضم الموجة الإسرائيلية العارمة المكتسحة . وانفجر الهواء بصفير الرصاص وهدير القذائف المحموم ، واندفعت موجات من الطيور قادمة من الشرق تزعق مرتاعة وسط القذائف والرصاص ، وراحت ذوائب شجر اللوز تنتفض متماوجة في وجه تيارات الهواء المتفجرة والمتدفقة في موجة القذائف والرصاص . وبين عدو وارتماء ، وارتماء وعدو ، بلغ منطقة أوفر أمنا ، وسار حتى انتهى إلى الهضبة ، والتقى مع أسرته . وفي خانيونس ، القريبة من الهضبة ، كان القتال  لا يزال يتواصل . وكانت القوات الإسرائيلية تطلق في سماء المدينة شعلا لتحديد أماكن القوات الفلسطينية المتناثرة في مداخلها وشوارعها ، فتصوب إليها القوات الفلسطينية سهاما من الرصاص المضي لإسقاطها ، وتنجح أحيانا في ذلك . يشق القلب خنجر ملتهب إذ ترى أمتك تسحق وتقهر . مهول مروع أن ترى جزءا من شعبك يصارع صراع موت أو حياة عدوا وحشيا فوجئت بأنه عنيف كاسر ، ولا تفعل شيئا . بدا راشد واجما  نادر الكلام  ، لا يبدي رأيا إلا إذا سئل ، وإذا تكلم اقتضب . تأكد الجميع أن في صدره  ذي السبعة عشر عاما حريقا يهدر متأججا . جاءه أخوه إبراهيم ، صبي في التاسعة . قال : أمك تناديك .

فترك الأربعة الذين كان يجالسهم . قالت : أخوك وأختك جائعان .

فقال مستنكرا : وماذا أفعل ؟!

وفكر ، ثم تابع : انتظري !

فزجرته محذرة : لا تذهب إلى البيت !

وابتلعته الظلمة . سار نحو ماصية قريبة . قد يعثر فيها على خيار أو بندورة تقوت أخاه  مجدي وأخته سلوى الصغيرين . نفذ بين شجر الجوافة الذي  تتخلله بضع نخلات وسيطات الارتفاع . قد يهتدي إلى مزروع خيار أو بندورة . ورجته صرخة امرأة : حرامي يا نور !

حرقه الوصف . لو فر لأكد أنه حرامي . تجمد في موضعه . هتف : لست حراميا .

وسمع صوت هرولة تنحوه . قال طاردا من صوته ارتعاشته : لا تتسرعوا ! لست حراميا . شارد من الحرب .

انبعث من الشجر شبحان . قال : السلام عليكم . أنا راشد أبو علي . أبحث عن أكل للصغار .

قال أكبر الاثنين : الحمد لله على السلامة . يدك !

وتصافحا ، وقال الرجل للشاب الذي معه : سلم عليه !

أب وابنه . سكن قلب راشد ، وعظم حكمة الأب وسرعة ترويه وتكيفه مع موقف غريب مفاجىء في ليل مظلم .

قال : لا تؤاخذوني !

قال الأب : لم نؤاخذك يا ولدي ! الحاجة تسرعت .

_ الحاجة معذورة . أي واحد في موقفها سيفعل ما فعلت .  ليل .

قال الأب : يا نور ، هات خبزا ! اجلس يا ولدي !

_ ينتظرونني .

_ انتصرت علينا إسرائيل .

_ هزيمة لم يحلم بها إبليس .

_ من سكان الحدود ؟

_ قريبون منها .

_ من أي عائلة ؟

_ المجامعة .

وأحضر نور خمسة أرغفة وبندورة وخيارا في مخلاة .

طلع الصباح على الناس والرمال . قال أكثر من واحد ، حتى الذين شهدوا محنة حرب 1948 وما فيها من تشريد من البيوت والأرض ، إنه أسوأ صباح طلع عليهم . علق راشد في اختصار : صباح أسود .

وتحركوا قاصدين غابة الأحراش المترامية جنوبا منهم للاستظلال بها والاستئمان في كثافتها . إنها الغابة التي أنشىء فيها بعد سنوات قليلة من الاحتلال تجمع مستوطنات جوش قطيف . ساروا إليها مثقلي القلوب ، لا يدرون ما الذي سيصيبهم ،وإلام ستفضي بهم عواقب الهزيمة الجارفة . وانصبت العيون  فزعة على راشد . هوي دون حراك على جنبه الأيسر ، ينساب من زاوية فمه خيط دم . 

وسوم: 636