دفتر
تقاعست الهمة عن الكتابة، نبذنى التفاعل مع الأحداث إيجابا أو سلبا: ـ ما الذى يدعونى للتفكير؟ ـ أيمكن لسفينتك أن تنجو من فوران الأمواج؟ ـ أتقصد أمواج الجياع؟ ـ لا تؤول كلماتى وفق هواك، فالجياع لا يملكون إرادة أو حياة، حتى الصراخ لا يقدرون عليه. دوما تزعزع هذه الحوارات ثقتى فى القدرة على التفكير، وإخضاع المشاهد لعين ناقدة، أخشى ـ ربما ـ الجنوح بالألفاظ، فأترنح أثر ركلات البغاة، اجتزت شهوة الفضفضة فى المقاهى والأندية، فالناس متعبون، والبعض متربصون، يترقبون حركات الألسن والشفاة، ربما ترسل الأقوال صاحبها إلى غيابات الجب، المتنطعون على الأرصفة والطرقات ينصبون شباكهم، أنظر إلى اللزوجة المتناثرة بالمقهى، السأم والضجر يسطوان عليها، وكأن الحيرة والقلق والتوتر أصبغت السحنات بالوجوم، أتنقل بين الوجوه المتعبة، لا تستهوينى هذه اللعبة ـ اليوم ـ كثيرا، فالشتات يلجم سفورى، أطرد مشاكسات العقل، أدفس عينى فى ورقات الكتاب الذى أحمله، لا أقدر على القراءة، تتجول عيناى بين الأسطر، كلمات عقيمة وأحداث رتيبة ونكهة مقززة، أصاب الراوى الخبل والعته، هزمته شخوص الحكاية شر هزيمة، أفقدته العذرية، ودفعته الغواية، ولا يليق الاستمرار فى مشهد القراءة، وكأنك تود أن تشيع بين الرواد أنك مثقف وتفهم ما لا يفهمون، وهم جوقة من الرعاع مفتقدى الأهلية، وجودهم معوق للتطور، والتخلص منهم فرض عين وليس فرض كفاية، أنتهى من رشف قهوتى، أغادر المكان متمهل الخطى، وكأننى فيلسوف العصر. أعرج إلى بائعة الصحف، أشترى صحيفتى اليومية، أحشرها في جيب بنطلونى، أعبر ميدان المساحة، أربعمائة خطوة بالتمام والكمال وتجدني في (العدلية)، لا تظن أنني قاضى أومحامى، فأنا ـ مجرد، موظف مدني علي الدرجة الأولي، ولا يفوتك التسليم بأن الناس درجات. وتتباين المقامات بقدر إنحناء الهامات، على رأى سيد درويش القائل بين ندمائه: لازم نطاطى.. نطاطى.. علشان نكبر ونعلى. وبالطبع أثر هذه الأغنية على سيد درويش إذ عين أميرا للطرب وكوفئ بورقة (منزول) معتبر، ما بين ضجيج وضجيج ينقضى وقتك، موظفون مرفهون يدفعونك للزعيق طوال النهار، يلفظك الهدوء، مرجل الدوشة يغلى، ولحم نافوخك يسيل. فجأة يناديك مدير الإدارة، يطلب دفتر الحضور والإنصراف، أذهب إليه متسكعا، يبادرنى بالقول: ـ خذ الدفتر إلى المكتب الفني، لا أدري لماذا طلبوك بصحبة الدفتر؟ ـ يا سيدي ياما قرعت الطبول والحرب لم تدر. أصعد ستين سلما، أنفاسى تلهث، جسدى يئن خمودا: ـ ماهي جريرتك يامدعي البطولة؟ ـ غلبنى الوهن، وغادرتني البطولة، تكلست حوائط نفسى جميعها. ـ جهز نفسك للعقاب. ـ ريشى منتوف وما في مسامي موضع لجرح جديد. زخم الهلاوس يكبل خطوك بتكرار التوقف، ترتعش ركبتاك، يقولون لك في السكرتارية اترك الدفتر: ـ لماذا الهوس بحكاية الدفتر؟ ـ آه تذكرت ـ الآن ـ أن عبدالرحمن اتصل بى في طريقه إلي (العدلية) قائلا: ـ المتظاهرون يقطعون الشوارع والميادين، قوات من الشرطة والجيش تناوشهم ويناوشونها، والجو ملبد بالغيوم، أيمكنك أن توقع لى قبل حضور المفتش؟ فكرت في الأمر، أقنعتنى حجته، لم أتريث، وقعت بدلا عنه، وقعت لكلا من عصام رجب والششتاوي، أدركت ـ لحظتها ـ أن اللوحة تلطشت ببقع سوداء، والعقاب سيأتي لامحالة، عدت إلي الإدارة وذهني مشتت، أؤنب نفسي، تهرسني المخاوف، تقلقني الهواجس، هذا الرجل القابع فوق مكتب التفتيش لن يرحمني، سيصنع مني أمثولة وأضحوكة، لكل موظف.
لم أقابله منذ تعييني، من المؤكد أنه يعرفني منذ مظاهرات مايو 2013، فاسمي مدرج في القمامة السوداء، أصدر قرارا بإيقافي عن العمل شهرين كاملين، ولم أسع لمقابلته واستعطافه حتي يعفو عني، والآن سنحت له الفرصة للتشفي والسخرية من شخصي، جلست فوق مكتبي أنتظر، لم تمر نصف ساعة وطلبني للمثول أمامه، يتفصدني الارتعاش، أتلعثم وكأنني لم أتعلم الكلام بعد، تارة أشجع نفسي بالتهوين من الحدث، وأخري أتوعدني بفصل الرقبة، الاطالة لن تفيد، ومواجهة الموقف أقصر الطرق إلى الراحة، دقائق وتجدني واقفا أمامه، يبادرني بالقول: ـ زين عبد الرحمن وعصام رجب والششتاوي؟ أستلهم آيات الكذب، الإنكار سيد الأدلة، أقول: ـ لا أدري. يمتلئ المكتب بالمستشارين والمحامين والموظفين، بأمر قاطع يستكتبني مذكرة، فأكتب: وقع الموضحة أسمائهم أدناه حضورا، وبالسؤال عنهم تبين خروجهم دون إذن، مما يستدعي معاقبتهم لخروجهم عن مقتضي الواجب الوظيفي. غادرت الغرفة، أنزويت بعيدا عن الأعين، توجعني المطارق، أتقزم، لا يقدر بدني علي حمل نفسي، الوشيش يصم آذاني: ـ لماذا الكذب: ـ النجاة في الصديق. ـ لماذا أتحمل أنا دون غيري انحراف الأخرين؟ ـ ألم توقع لهم؟ ـ كلا.. ولكن أليس من حقي مراعاة ظروف الموظفين؟ ـ من أنت؟ يتثاقل الوقت، تتوقف الساعة، أضحي الترقب مأساة، تستدعي الاتصالات المتوالية الغائبين للحضور في التو واللحظة، أتشبث بطوق النجاة، وعلي أسوأ الفروض فالجزاء الإداري لن يكون كالقتل بسكين أو بمطواه، أعابث جوارجي المتقدة، أذرع الإدارة طولا وعرضا، ربما تقضي الحركة علي التوتر، ترديه قتيلا، شهيدا، جريحا ومخبولا. حينما يتلقي الانسان الصدمات وهي في حالة حركة تنكسر حدتها، وتتشظي نيرانها الخسائر، عموما هذه النظرية العبثية تنقصها الاثباتات، قدم الثلاثة، رسمت لهم التوقيع كما بالدفتر، وأقنعتهم أن الإقرار بالتوقيع وإن كان مزورا يعفي من المسئولية، وعليهم ألا يضعفوا أمام المحقق، ويحتاطوا من حيل الترهيب، صعدوا إلي الأمانة العامة، لكي يثبتوا حضورهم لحما وشحما، ويبرروا غيابهم، تمر ساعة، ربما أكثر من ساعة، أفكر ـ جديا ـ من الذي فرقع هذه البومبة؟ من هو مفجر قنبلة الوشاية أتجول بين الأوجه الكثيرة القابعة خلف الحاسبات. أكشف الجاسوس، أيمكنك سبر أغوار النفوس واستنطاق الواشي؟ جميعهم يظهرون آيات الامتعاض، ولا أدري من الصادق ومن الكاذب، والشئ اللافت للتدبر هو تكاثر المفتشين حينما يسند إليّ الدفتر، فانت ـ الآن ـ علي يقين أن هناك من يسعي جاهدا لزحزحة الدفتر من بين يديك، والسؤال الملح أيمثل لك الدفتر شيئا جوهريا وحيويا، أيضيف إلي اسمك لقبا جديدا، أيدفعك للترقية؟ من اليسير أن تدرك وجود الكثيرين الذين يكرهونك، يبتسمون في وجهك وحين الغفلة يفجرون جمجمتك الفارغة، ماذا يريدون؟ ظروف وظيفتهم لن تتكرر ثانية، يحصلون علي ثلاث أيام راحات في الأسبوع، أي أن بعضهم يتقاضي أجرا كاملا مقابل نصف العمل، وأجورهم مقارنة باقرانهم في الحكومة مرتفعة، وجميعهم أبناء لمستشارين وموظفين قدامي، وزملاؤهم الشباب علي المقاهي يتجرعون البؤس والفاقة، الآن لا تقل إنني أنحرف لأتعصب ضد وجودهم، أفرز جراثيم الرفض لوجودهم، ربما يكون إعلانك هذا الموقف أمامهم أكثر من مرة مدعاة لمثل هذه التصرفات الانتقامية! ـ لماذا وقعت لهم دون حضورهم؟ أرد في آلية: ـ لم أوقع لهم. يضرب الجرس، يأتي المحقق الذي تولي التحقيق مع الموظفين، يقول فرحا منتصرا: ـ عبدالرحمن قال إنك وقعت له. يلتقط الكبير الخيط قائلا: ـ من يكذب في حضرتي جزاءه عسير، علي الأقل أتعبه سنة كاملة. أعلق وجلا: ـ أعلم هذا جيدا. يرمي إلي حبل النجاة قائلا: ـ أصدقني القول وسأتغاضي عن هذا الأمر. وكأنني في التيه، لا أعلم سبيلا للنجاة. ذهني فقد بوصلته، تنقلي علي المقاهي طوال شهرين كاملين يئز في نافوخي، إفلاس البيت من الطعام يكبلني، نظرات التشفي والعبوس تلاحقني، حتي الأصدقاء يتجنبون الحديث معي، لا مفر من الاعتراف: ـ بالفعل وقعت لعبد الرحمن، قال لي في الهاتف: ـ المظاهرات تجتاج حلوان والمواصلات شحيحة، وقد أتأخر في الحضور، فأرجوك وقع لي. أغلق باب الحوار بقوله: ـ لماذا أنكرت في البداية؟ ـ رددت عليه قبل أن يجتاحه الغضب. ـ ما لم تعدني بالعفو ما تفوهت بالحقيقة. عقب بإقتضاب. ـ لا تكررها ثانية. قدماي تسوخان فى رمال الوهم، كاد جسدى أن يتهاوى، لا وقت للتأنيب أو التقريع، ولا وقت للتأمل والإتعاظ، لا وقت لأى شىء..
جلست على الفوتيه المتخم لحجرته حتى أسترد القدرة على التنفس، اختنقت أنفاسى، وشحب لونى، وارتجت أركانى، فالإنسان المحتل موقعه فى الفراغ فراغ، صورته هلامية، وكينونته عبث. نزلت الشارع، عبرته بصعوبة، تباطأت الخطى، لمحت عبد الرحمن يتبعنى، فحاولت أن أمشى سريعا حتي لا يلحق بى، بذورى حلفا كذب، وأرضى لا تطرح إلا نبتا شيطانيا، حاذانى وأطلق قنبلته التبريرية: ـ لم أقصد الاساءة إليك. جملة تفتقد المعنى والمبنى، أتسلل بين السيارات، أتوه فى زحام الطلبة، ولكنه لا يدعنى أغيب عن عينيه، لن تفيد تبريراته، وخاصة أن كلا من عصام والششتاوى أصرا أمام المحقق أن التوقيع توقيعهما، لم يرهبهما الوعيد، حاول المحقق معهما طويلا، داور، حاور، ناور، فشل فى حثهما على الاعتراف، والمقارنة بين موقفهما وموقف عبد الرحمن تصب فى نهرهما الرائق، فعبد الرحمن لم يع أننى خدمته الخدمة الجليلة، صدقته والتمست له عذر التأخير، الشرطة والجيش يطاردان المتظاهرين، والميكروباص حائر لا يجد منفذا للهروب، وتأخيره حادث لا محالة، بالطبع سافرت به الأهواء، ولبسه الخوف فاعترف أننى زورت له التوقيع، أيحق لى أن ألتمس له العذر؟ قد تطول المطاردة فأقول: ـ الموضوع انتهى يا باشا ولا داعى لنبش الرفات. يصر لاستئناف إيراد الحجج: ـ قال لى المحقق إنك كتبت مذكرة ستقضى على مستقبلى الوظيفى. يسعى لجرى إلى حوار، ربما يستفزنى ليقر بأنه لم يرتكب خطأ، تترى المشاهد والمواقف، كدت أن أقع أكثر من مرة، تذكرت أننى عرجت على الصيدلية صباحا لشراء دواء لوالدتى، وهذا الدواء نادر، وعدتنى الصيدلانية به بعد العصر.. أخذت الدواء، وأثناء خروجى اعترض طريقى قائلا: ـ من الضرورى أن تسمع لى. أجبته على الفور: ـ لماذا لم تطلعنى على أقوالك قبل أن تقول لى إن الكبير يستدعيك للمثول أمامه؟ ـ نسيت. ـ لم تنس، بل سولت لك نفسك شيئا ما. ـ بل غرر بى المحقق. ـ عيب، أنت راشد. ـ لماذا تتهمنى أنني أبغي أذاك؟ ـ سبق وأن كررت أن الموضوع برمته انتهى، العتاب لن يغير فى الأمر، وما حدث كان نتيجة لغبائى. قصدت مقهى والى، تشرف بواجهتها على ميدان الدقى، لبس المقعد جسدى المنهك، وللأسف تعقبنى وجلس على المقعد الذى يجاورنى، لا أود الحديث معه، انطفأ مشعل النقاش، أريد الإنفراد بنفسى، طالت بى السنين ولم أتعلم شيئا ذا بال.. تتفلسف بالقول إن الوظيفة لا تبنى مجدا ولا تترتب عليها مكانة مرمرقة، فالوظيفة المدنية فى (العدلية) شأنها شأن أى وظيفة هامشية، فوكيل الوزارة وعامل الخدمات المعاونة سواء بسواء ، لكن الحوداث كشفت لك بعد فوات الأوان أن هناك من يقتل لكى يصبح مقربا من السلطة، ولهؤلاء أدوات فتك لا تعشق إلا لون الدماء، وفجأة نهض عبد الرحمن من مقعده، يفتش جيوبه فى لهوجة وفزع، يسألنى: ـ ما شفتش الجواب اللى كان معاى راح فين؟ ـ أجيبه بتهكم: ـ ركب جناحين وطار. أمارات الخوف تكسو وجهه، يستطرد متعلثما: ـ فى المظروف فواتير علاج لزوج أختى المستشار، ومش عارف أقوله ازاى إنها ضاعت. أقترح عليه: ـ يمكنك الرجوع من ذات الطريق الذى أتيت منه، ربما تجده! هرول خارجا من المقهى، بينما أنا أطوى الصفحة، أنتهى من رشف القهوة، أغادر المقهى مفتشا عن الهواء النقى، لا أقصد موقف الميكروباص أسفل كوبرى الدقى، آلاف الخطى تلزمنى حتى ينهد حيلى وأنطرح فوق الفراش كالخرقة البالية، تعبرنى الطرقات والشمس تلفحني بلهيبها.
وسوم: 638