قبل أن تغرق السفينة

يحيى بشير حاج يحيى

قال ماجدٌ لجده :

ـ وعدتنا يا ـ جدي ـ يوم أمس أن تقص علينا قصة السفينة !

قال الجد :

ـ وأنا عند وعدي لكم ـ يا أبنائي ـ

انتبه ماجد وإخوته ، وخيّم الصمت على الجميع ، وركزوا أبصارهم في وجه الجد العجوز ، الذي انطلق قائلاً :

ـ عندما وقفت السفينة التي كانت تنتقل من الشاطئ الغربي إلى الشاطئ الشرقي في أحد الموانئ ، طلب ثلاثة من الرجال الذين بدا عليهم الجوع والتعب ، طلبوا من قائد السفينة أن يحملهم معه ، لأنهم انقطعوا في هذه الديار ، ولم يعد معهم نفقة ، وقد تأخروا في العودة إلى أهلهم .

كان قائد السفينة ذا خبرة واسعة في البحر ، وفي الرجال الذين يعملون فيه ، وكان يخشى من اللصوص ، وحين تأكد من صدقهم أحسّ بالشفقة عليهم ، واشترط أن يكونوا في أسفل السفينة ، لأن جميع الأماكن على ظهرها محجوزة من قبل ، وفيها كثير من الأسر ، وبعض هؤلاء مرضى لا يستطيعون الصعود والهبوط .

وافق الرجال الثلاثة على شروط القائد ..... ومضت السفينة في طريقها حسب الخط الذي تسير عليه في كل مرة ، ولكنهم بعد أن شبعوا وارتاحوا بدؤوا يتذكرون أهليهم وأولادهم ، ويتمنون أن تصل السفينة قبل موعدها ؟! قال أصغرهم :

ـ لماذا لا نكلم قائد السفينة ليسرع ؟

قال الآخران :

ـ من يكلمه ؟

قال : أنا وأنتما تكونان معي .

مرّ بهم القائد وسألهم عن أحوالهم ، فقال أصغرهم :

ـ أيها القائد ! أنت رجل كريم ، ونحن مشتاقون إلى أهلنا ، لماذا لا تسرع بنا أكثر ؟!

قال قائد السفينة :

ـ هداكم الله ـ إننا نسير ضمن خطة معينة ، وسرعة محددة ، وإن للبحر مفاجآت أنتم لا تعرفونها ؟!

قال أوسطهم :

ـ إذا كنت لا توافق على زيادة السرعة ، فلعلك تختصر الطريق .

ابتسم القائد ، وقال :

ـ في البحر كما في البر طرق محددة تسير فيها السفن ، وقد اعتادت عليها لتضمن لنفسها ولركابها السلامة .

تركهم القائد ، وذهب إلى بعض شأنه ، فقال أكبرهم :

ـ ليس لدينا مال ندفعه له لكي يسرع أو يختصر الطريق ؟!! وهذا الصنف من الرجال عنيد ، لا تنفع معه إلا القوة والتهديد .

قال أوسطهم :

ـ ويحك ! اخفض صوتك ، أهذا هو جزاء مَنْ أحسن إلينا ؟! ثم لو فعلنا ما تفكر به فسنكون الخاسرين فنحن ثلاثة لا نملك إلا ملابسنا ، وهم كثرة لديهم السلاح والقوة ... اصرف هذا الخاطر الشيطاني عن ذهنك ؟!

وبات الثلاثة ليلتهم تلك ، وهم مهمومون قلقون ، وفي الصباح صعد أصغرهم إلى ظهر السفينة ليأتي ببعض الماء ، وكان الوعاء ثقيلاً ، وحين رجع أبدى تضجراً ، وطلب من صاحبيه أن يوكلا له عملاً آخر ! فقالا له :

ـ أنت أصغرنا وأقدرنا على ما تقوم به ؟!

صمت وهو يحس بالتعب والحزن ، وقال في نفسه لأفعلنّ غداً أمراً أريح به نفسي من التعب ، وأوفر الماء اللازم ، دون أن أصعد على ظهر السفينة .

وفي صباح اليوم التالي استيقظ قبلهما ، وأمسك بمطرقة وإزميل له رأس رفيع وراح ينقر جسم السفينة نقراً خفيفاً ، ليثقب ثقباً صغيراً يدخل الماء منه ؟!

انتبه صديقاه مذعورين ، وأمسك أحدهما بالمطرقة ، والآخر بالإزميل ، وصاحا بصوت واحد :

ـ ماذا تفعل أيها الأحمق ؟!!

تراخت يداه ، ونظر إليهما بهدوء وقال :

ـ بل أنتما الأحمقان ! إنني سأحصل لكما على الماء ننتفع به ولا نضر غيرنا ، وأنا كلما صعدت إلى ظهر السفينة أحس بالتعب ويزعجني بعض ركابها بنظراتهم وكلماتهم الهازئة ! وأنتما لم تعانيا ما أعاني كل يوم ، وأنا منذ الآن لن أصعد إلا مرة واحدة كل ثلاثة أيام ، وسيكون لكل واحد منكما يوم يجلب فيه الماء .. أو تتركاني أفعل ما أريد .

قال أحدهما للآخر :

ـ لنتركه يفعل ما يريد ، وإلا فسنضطر للصعود .

ثم قالا له :

ـ امض في عملك ، واجعل الثقب صغيراً .

كان قائد السفينة يتفقد أعمال رجاله ، ليتأكد بنفسه من أن كل شيء على أحسن وجه ، وعندما اقترب من السلم الذي يؤدي إلى الأسفل ، سمع صوت مطرقة يتوالى بانتظام فنزل مسرعاً ، ليرى المشهد المخيف ، فانقض كأنه النسر ، وأمسك بالمطرقة وصاح :

ـ ويحك ! ماذا تفعل ؟ إنك تعرضنا جميعاً للموت والغرق ؟!!

توقف أصغرهم مندهشاً ، ونظر الآخران في استغراب ؟! وقالا :

ـ ولكنه لا يفعل شيئاً يؤذي الآخرين أيها القائد ؟!! إنك ومنذ أن ركبنا معك لا توافقنا على شيء ، فليتنا كنا نملك مالاً ندفعه لك لنصبح كالآخرين .

نظر القائد إلى مكان الثقب ، وحمد الله أنه لم يُفتح بعد فأحس وكأن صخرة انزاحت عن صدره ؟! وقال بصوت منخفض :

ـ غفر الله لكم ، لقد كنتم تقودوننا جميعاً إلى الهلاك ؟

قالوا :

ـ كيف ؟

قال :

ـ لو أنني تركت صاحبكم يفعل كما تركتموه لثقب جسم السفينة .

قال أحدهم:

ـ وماذا يضر هذا الثقب وهو سيكون صغيراً ؟

قال الآخر :

ـ ألهذا الحد تخاف من ثقب صغير في سفينتك ؟!

قال القائد :

ـ نعم ، لأن هذا الثقب سيكبر ويكبر ؟! وستدفق الماء منه شيئاً فشيئاً حتى يغمر أسفل السفينة ولن نكون عند ذلك قادرين على فعل شيء ننقذ به أنفسنا ، ومن معنا ، لأن حمولة السفينة ستصبح أكبر من قدرتها ، وعند ذلك تحدث المأساة وتهوي بنا إلى قعر البحر .

انتبه الثلاثة جيداً إلى كلام القائد ، واعذروا عمّا بدر منهم ، ورَجوه أن يقبل اعتذارهم ... ومضت السفينة بأمان ..

قال الجد :

ـ في حياتنا ـ يا أبنائي ـ كثيرون يثقبون الثقوب في سفينة المجتمع ؟! وكل عمل فيه ضرر ، وفيه شر ، وفيه منكر هو ذلك الثقب ! فإذا انتبه الناس إلى ما يفعل هؤلاء نَجَوا جميعاً ، وإذا تركوهم غرقوا كلهم ، وحلّت المصيبة بالجميع ..

وسوم: 638